المئوية
  |  
الكنيسة السريانيّة الأرثوذكسيّة
Cross

عظة البطريرك اغناطيوس افرام الثاني في بيروت، 18.1.2015

نصّ الكلمة التي ألقاها قداسة سيّدنا البطريرك في القدّاس الاحتفالي لذكرى مئويّة سَيفو، في كاتدرائيّة مار يعقوب السروجي في البوشرية، 

جبل لبنان، في 18/1/2015 *

أصحاب النيافة والسيادة والمعالي، أيّها المؤمنون الكراملطالما تكبّد الرسول بولس مشقّات السفر لنشر الإنجيل في كلّ مكان، وعانى من الاضطهاد ومن كلّ الضغوطات والتخويف لكي يرغمه الوثنيون واليهود على ترك إيمانه بالربّ يسوع المسيح. فعاين الكثير من الجلد والصلب والقتل والذبح وكلّ الجرائم التي تعرّض لها المسيحيّون الأوّلون نتيجة إيمانهم بالرب يسوع المسيح.


«من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟» (رومية 8: 35)

صاحب الغبطة،
أصحاب النيافة والسيادة والمعالي،
أيّها المؤمنون الكرام،

لطالما تكبّد الرسول بولس مشقّات السفر لنشر الإنجيل في كلّ مكان، وعانى من الاضطهاد ومن كلّ الضغوطات والتخويف لكي يرغمه الوثنيون واليهود على ترك إيمانه بالربّ يسوع المسيح. فعاين الكثير من الجلد والصلب والقتل والذبح وكلّ الجرائم التي تعرّض لها المسيحيّون الأوّلون نتيجة إيمانهم بالرب يسوع المسيح.

وعوض أن ينقص عدد المسيحيّين بسبب الاضطهاد والتنكيل، نرى الناس يقبلون إلى الايمان، وعدد الذين يتبعون الطريق يزداد يومًا بعد يوم. وكأنّ دم الشهداء أخذ يروي بذور الإيمان بالمسيح، حتّى وصلت بشارة الحياة إلى أقصى المسكونة.

ولكنّ عصر الشهادة لم ينتهِ؛ ففي كلّ زمان ومكان، نرى دم الشهداء الزكي يُسفَك على مذبح الإيمان، وكأنّ الكنيسة لا تنمو ولا تتقوى إلا بسفك هذا الدم البار. لا بل نرى الكنيسة قويّةً ثابتة عندما تخرج من اضطهاد غاشم أو محنة قاسية. وهكذا أصبحت الشهادة والاضطهاد من علامات الكنيسة الحقّة والتي أصبحت تُدعى بالكنيسة المجاهدة، والتي تعلمت من سيّدها أنّه ما من حبّ أعظم من هذا، أن يضع الإنسان نفسه عوض أحبّائه.

أيّها الأحبّاء،

أطلقنا يوم الأحد الماضي من كاتدرائية مار جرجس البطريركية بدمشق سنة اليوبيل المئوي لمجازر الإبادة الجماعية للسريان المعروفة بمذابح «سَيفو» التي ارتكبها المجرمون بحقّ الشعب السرياني في حملة كان مُرادُها إزالة كلّ أثر للمسيحيّين في الأرض التي عاشوا فيها مذ وجدوا، أرض الآباء والأجداد. أجل، كانت حملة مليئة بالكراهية والحقد، هدفها الوحيد إبادة الشعوب المسيحيّة، الأرمنيّة والسريانيّة وسواها، بغية السيطرة على ممتلكاتها والقضاء على كلّ مَن يخالف أفكار ومعتقدات هذه الأقوام التي أعماها التعصّب الديني، فأقامت من نفسها مدافعة عن إلهها، وكأنّ هذا الإله غير قادر على حماية نفسه أو تعاليمه. وكذلك جاءت سياسة التتريك لتستهدف كلّ مَن لا يمتّ إلى العثمانيّة بصلة، فأرادوها أرضًا لا يسكنها إلاّ مَن تحدّث لغتهم وانتسب إلى قوميّتهم. فأدّت هذه السياسات إلى إبادة جماعيّة بحقّ الشعوب المسيحيّة التي كانت تعيش ضمن حدود الإمبراطوريّة العثمانيّة، وخاصّة في بلاد ما بين النهرين والأناضول، فسقط أكثر من خمسمائة ألف شهيد من السريان من مختلف طوائفهم. وبسبب فظاعة هذه المجازر التي كانت الأولى في القرن العشرين، أطلق السريان عليها اسم «سَيفو» السيف الذي كان من أكثر آلات القتل والتعذيب المستعملة يومئذ. فعمل السيف في رقاب الرجال والنساء والأطفال، وكذلك الشيوخ والفتيان، ولم تنجُ منها حتى الحوامل والأرامل، كما ساقوا المطارنة والرهبان والقسوس والشمامسة إلى حتفهم متفنّنين بقتلهم دون أن يرتوي ظمأهم للدم والقتل والجريمة.

إنّ تلك الأعمال الإجراميّة لا يمكن أن توصف إلا بجريمة ضدّ الإنسانية وهي تشكّل وصمة عار على جبين البشريّة. ليس فقط بسبب وحشيّة مرتكبي تلك المجازر، ولكن أيضًا بسبب سكوت الكثير من الأمم والشعوب عليها. فإنّ الكثير من الدول القويّة آنذاك غضّت النظر عمّا كان يحدث وكأنه لا يعنيها. والآن، وبعد مرور قرن كامل على بدء تلك المجازر، لا زالت دول العالم غير مهتمّة بها أو بإنصاف الضحيّة ومحاكمة مرتكب الجريمة.

إنّ الأيّام والسنين لن تمحو ذكرى شهداء هذه المجازر من قلوبنا، فلكلّ سريانيّ يعيش اليوم أينما كان، قرابة تربطه بأحد هؤلاء الشهداء، أو سمع قصّتهم من أقرباء أو من شهود عاينوا تلك الأحداث، فصارت أخبارهم تعنيه شخصيًّا، وسجّل في ذاكرته روايات هذه الأحداث لتتناقلها الأجيال، فتظلّ تلك المأساة حاضرة أبدًا في ضمير كلّ سريانيّ، وتبقى مذابح سَيفو قضيّة تدغدغ مشاعرنا كلّما سمعنا أخبار اعتداءات أو اضطهادات تواجه شعبنا. وها هي الأحداث الأليمة التي حلّت بأبناء الكنيسة في سوريا، حيث هُدمت الكنائس والمدارس، واختُطف المطارنة والكهنة، وقُتل المئات في صدد وحمص والجزيرة. وفي شمال العراق، حيث شُرّد الآلاف من مدينة الموصل، وهُجّر ما يقارب المائة والخمسين ألفًا من المسيحيين من قرى وبلدات سهل نينوى. تذكّرنا من جديد بسيفو، فنسأل أنفسنا: هل حقًّا كانت مذابح سيفو واقعة حدثت منذ مائة عام؟ أم أنّها ما زالت وستظلّ تتكرّر من وقت إلى آخر، ما دام هناك مَن يخاطب السيّد المسيح بلسان توما الرسول قائلاً: «ربّي والهي»؟

فبعد مئة عام على سَيفو 1915، تتجدّد الإبادة: ما زال التهجير المُمَنهَج قائمًا، والتهديد بالقتل، وتدمير البيوت والكنائس وسرقة الممتلكات في الموصل وقرى سهل نينوى تُجبر أبناء كنيستنا والمسيحيّين على ترك بيوتهم، وهجر أرضها، والرحيل من الشرق الأوسط. ما الجرائم التي يتعرّض لها أبناؤنا في سوريا والعراق إلا إبادة شعب واقتلاعه من أرضه وإفراغ هذا المشرق من مسيحيّيه.

أراد أنصار الشرّ أن يسرّعوا العمل في مخطّطهم، فكان خطف المطرانين الجليلين مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم وبولس يازجي لإحباط عزيمة المسيحيّين الذين يأبون ترك بيوتهم وأرضهم ووطن الآباء والأجداد. وبقدر ما يؤلمنا الصمت العالمي حول قضية خطف المطرانين، فإننا نصلّي دون انقطاع كي يعودا إلينا ويرجع كلّ المخطوفين إلى ذويهم وأحبّائهم.

أمّا هدفنا من تكريس هذه السنة للمئوية الأولى لمذابح سَيفو، فهو استذكار ما حدث منذ مائة سنة لكي لا يحدث أمر مشابه لنا أو لغيرنا. نحن لا نستذكر سَيفو لكي نشجّع على الكراهية، أو ندفع إلى الانتقام، فتعاليم ربّنا لنا هي أن نحبّ الجميع، حتّى أعداءنا. ورسالتنا واضحة ونقولها علنًا من هذه الكنيسة المقدّسة: هذه أرضنا ولن نتركها مهما فعلتم بنا، سنبقى فيها صامدين، بل سننهض مع سائر أبناء هذه الأرض لنبنيها سويّةً، ونجعلها أرض محبّة وسلام وتآخٍ.

رحم الله شهداء مذابح سَيفو، وشهداء السريان في العراق وسوريا ولبنان.

_______________

* المجلة البطريركية للسريان الأرثوذكس، العدد ٣٢٩، العام ٢٠١٥، ص. ٢٤-٢٦.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

عظة البطريرك اغناطيوس افرام...

عظة البطريرك اغناطيوس افرام الثاني في دمشق، 11.1.2015

Previous Chapter
الفصل التالي

نصب تذكاري في القامشلي...

نصب تذكاري في القامشلي 6.4.2015

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013