إستشهاده
  |  
روايات السريان
Cross

القسّ اسحق أرمله

رواية القسّ اسحق أرمله في كتابه «القصارى في نكبات النصارى»

القسّ اسحق أَرمَله
القسّ اسحق أَرمَله
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

هو الياس بن سعيد أرمله. أبصر النور وتعمّد في ماردين، في 6 شباط 1879. وفي 11 تشرين الأوّل 1895 غادر ماردين إلى إكليريكيّة السريان في دير الشرفة – لبنان حيث أكبّ على تحصيل العلوم. رسمه البطريرك افرام الثاني رحماني كاهنًا في 8 أيلول 1903 باسم اسحق، واتخذه كاتبًا لأسراره. عُيّن في ماردين، في شهر أيلول 1912، حيث تولّى تعليم الرهبان الافراميين. 1
تابع عن كثب المجازر التي ارتكبها الأتراك بحقّ المسيحيين في الحرب العالميّة الأولى، في ماردين ومحيطها، ودَوَّن بالكرشونيّة، أي بالحرف السرياني واللغة العربية، الفصول الأولى من كتابه الشهير “القصارى في نكبات النصارى” الذي جمع فيه روايات هذه المجازر. كان شقيقه، الشماس يوسف، في قافلة 11 حزيران، مع المطران مالويان والأب ليونار، واستُشهدوا معًا.
ما أن شعر بخطر مداهمة المطرانيّة، حتّى قام بوضع ما كتبه وما عنده من معلومات ثمينة في صندوق دفنه تحت التراب في حديقة المطرانيّة، بما فيه دفتر الأب ليونار الذي كان يدوّن عليه مجريات الأمور في ديره ودير الراهبات، وكان الأب الوديع قد سَلَّمه إيّاه قبل زجّه في السجن. لذلك، إنّ إسحق أرمله هو الوحيد بين مؤرخي تلك الفترة الذي يذكر بالتفصيل عمليّة تفتيش دير الآباء الكبّوشيين وتوقيف الأب ليونار. 2
بعد انتهاء فصول الحرب الدامية، عاد إلى لبنان، واستقرّ في كاتدرائية القدّيس جرجس للسريان الكاثوليك في بيروت، في حيّ الخندق الغميق، مكرّسًا نفسه للبحث والتأليف. فقام، في العام 1919، بنشر «القصارى في نكبات النصارى»، باللغة العربيّة. لديه 50 كتابًا، 40 منهم تمّ نشرهم، والعشرة الباقون مخطوطات، بالإضافة إلى المقالات المنشورة في المجلاّت الدينيّة. كان الصديق الحميم للأب لويس شيخو اليسوعي، مواطنه من ماردين. توفي في 13 أيلول العام 1954، بسبب السرطان، ودُفن في الكاتدرائية التي دُنّست مقابرها إبّان الحرب اللبنانيّة التي ابتدأت في العام 1975 ودامت 15 سنة.
ننقل ههنا بعض المقاطع التي استشهدنا بها في كتابتنا لسيرة الأب ليونار، محافظين على الأسلوب القديم الذي كُتبت فيه، والكلمات القديمة التي استعملها الكاتب، مع شرح لها بين قوسين، ومضيفين العناوين والفواصل، تسهيلاً لمتابعة الأحداث.


زيارة المطران اغناطيوس
مالويان إلى المطران جبرائيل تبوني
توقيف المطران مالويان والأب ليونار والإكليروس الأرمني ووجهاء ماردين
بدء عمليّات التعذي
( ص. 161 – 170)

مضى شهر أيار على ما وصفنا، والسيّد اغناطيوس كاسف البال، قلق الخاطر، مكروب النفس، تؤرّقه الهموم، وتتقاسمه الأفكار. وصباح الثلاثاء بدء حزيران، شخص إلى كنيسة السريان ليزور صديقه الحميم السيّد جبرائيل تبوني، فاستدعى الآباء الدومنكيين الموجودين لديه، وبثّهم لواعج حبّه، وكاشفهم بمكنونات صدره، وبعد أن أفاض في الحديث، وصرّح لهم بما يخامر فؤاده الحنون من الأشجان، عرض على السيّد جبرائيل شؤون مَن يتبقى في قيد الحياة من جماعته المحبوبة، ثمّ نشر رسالته الأخيرة، وتلاها بحضورهم، ثمّ طواها ودفعها إلى صديقه يقول: «صن هذه الوديعة لديك، احتفظ برعيتي بقدر طاقتك، أنت المفوّض في شؤونها من بعدي ريثما يرى الرؤساء تدبيرًا آخر، على إنّي متحقق أن قد حضر الزمان لارتحالي من هذه الدنيا الغرور».

فجعل المطران جبرائيل والآباء الثلاثة يشجعونه ويسلونه ويعللونه بالنجاة. غير أنّ الحبر المغبوط ما تمالك أن قال لهم: «إنّي عارف حقّ المعرفة أن سيُحكم عليّ وعلى رعيّتي العزيزة بالعذاب والموت… إنّي منتظر إلقاء القبض عليّ وعليهم من يوم إلى يوم… لا بدّ لنا من ذلك… جئت إذن اليوم أودعكم وأستودعكم الله… صلّوا لأجلي… في ظنّي هذه آخر مرّة أشاهدكم… الوداع أيّها الأحبّاء، الوداع».

وعند ذاك لعجت الأحزان فؤاد الحضور، وأصلت ضلوعهم، وتساقطت الدموع على خدودهم. قال لهم الحبر الجليل: «إنّما أبقانا الله تعالى لمثل هذا اليوم، وهو القادر أن يعضدنا ويسلحنا بخوذة الغلبة». وبعد هذا كلّه، عاد الزائر العزيز إلى مركزه، وخلّف في قلب المطران والآباء تذكارًا طيّبًا جميلاً يبدونه ويعيدونه ما داموا في قيد الحياة.

وعصر عيد الجسد 3 حزيران انقضّ على ماردين ممدوح، رأس النحوس، وصاحباه الياور وهارون، قائدا النكد والشؤم، وساروا توًّا إلى دار الحكومة، ظانين أنّه لن يصعد بيدهم تنفيذ أوامر الوالي سيّدهم. وفاتهم أنّ طرق الغدر والخيانة قد مُهّدت، وأبواب الشرّ والفساد قد فُتحت. واتفق أنّ حلمي بك المتصرّف كان متغيبًا عن البلد، فاستفرص دعاة النفاق فرصة غيابه إلى اقتراف ما يطيب لهم. وما وضع هؤلاء الثلاثة أقدامهم في دار الحكومة حتّى بُعثت إليهم أوراق التزوير تترى [الورقة تلو الأخرى]، وانثالت [انصبّت] عليهم شهادات التمويه أرسالاً. فكان كلٌّ يرقّم في ورقته أسماء مَن شاءت خباثته، ويدفعها إلى الوفد الجزيل الاحترام، ويعرضها عليه قائلاً: إن افتقرت إلى تأييد دعواي أيّدته بشهود عدل أي زور.

                   وعين البغض تبرز كلّ عيب           وعين الحبّ لا تجد العيوبا

فأرسل وفد الشؤم من فورهم شرذمة من الجند، وفيئة من العسكر الخمسيني، كبسوا كنيسة الأرمن، واستحضروا للحال المطران اغناطيوس، والأب بولس سنيور، كاتب أسراره، إلى دار الحكومة. ثمّ بثّوا في تلك الساعة نفسها طائفة من الجنود في البلد يستدعون وجهاء الأرمن إلى ذلك المحفل الخبيث. فقبضوا في تلك الساعة النحسة على سبعة وعشرين رجلاً، منهم نعوم وجرجس جنانجي، واسكندر آدم وابنيه شفيق وغسطو، وانطون كسبو، واسكندر وفتح الله كندير، وجبرائيل عين ملك، وفرنسيس دقماق ويوسف ابنه، وسعيد عشو، وحنا مخولي ومنصور شقيقه وعمه بوغوص، ويوسف ترزي، وعبد المسيح آدم ونجله آدم، وسليم عبراني. فشمل القلق جمهور المسيحيين، واستبهم عليهم الأمر [حاروا بما يفعلون]، وباتوا يحسبون ألف حساب، ويستفسرون عن السبب! فكان الخونة يقولون لذويهم أنّ غدًا يُطلق سبيلهم بعد استنطاقهم.

وسحر الجمعة 4 حزيران، احتاط الجنود بالبلد، وأمروا المنادي أن يصيح: مَن خرج خارجًا قُتل. ولَمّا بزغت الشمس، انتشر الجنود والعسكر الخمسيني الحديث كالجراد في أحياء النصارى، وفي الأسواق، ونشموا [وبدأوا] يقبضون على مَن وجدوا من الأغنياء والوجهاء من جميع الطوائف النصرانيّة من دون تمييز، حتّى بلغ عددهم ستمائة واثنين وستين رجلاً. فحشروا طائفة في السجن، وطائفة في الثكنة حتّى غصّ بهم كلا المحلَّين. وزادوا على ذلك اللؤم والنفاق، أنّهم أغلقوا الكوى [جمع كوّة ومعناها الفتحة الصغيرة في الحائط غير النافذة] والشبابيك والأبواب إغلاقًا محكمًا حتّى كاد المسيحيّون يفطسون. وأُغمي على الشيخ يوسف جرباقه لضخامة جسمه، فاستدعى ابنه إبراهيم البواب، ونفح له ستين غرشًا، فأذن له أن يرقد عند الباب.

وقبضوا بعد الظهر على اثني عشر قسًّا أرمنيًّا، وكبسوا دار الخوري روفائيل بردعاني، واستاقوه بشراسة إلى المحكمة، وقبضوا على قسّين آخرَين من كهنة السريان الكاثوليك، وهما القسّ بطرس عيسى، والقسّ يوسف معمارباشي.

وواصل الجنود شغلهم يوم السبت أيضًا، فجمعوا زهاء مائتي شخص في دار الراهبات الفرنسيسيات حتّى إذا كان الغسق استاقوهم جميعًا، اثنين اثنين، إلى السجن، وكدّسوهم فوق بعضهم.

وفي اليوم ذاته، هجموا على كنيسة الكبّوشيين، وصادفوا دفترًا تضمّن أسماء المشتركين في أخويّة مار فرنسيس، وكان عنوانه «أخويّة مار فرنسيس» ففهموا بفرنسيس فرنسا، وادّعوا أنّها جمعيّة فرنساويّة. ما أشطرهم؟ بل ما أخبث قلبهم. فاحتدموا غيظًا على رئيسها الأب ليونار النبيل، وقالوا له: «أأنتَ إمام الجمعيّة الفرنساويّة ههنا؟ أنهض عاجلاً واتبعنا.» فقام من ساعته وتبعهم…

ويوم الاثنين سابع حزيران، تبادر إلى ظنّ لجنة الأشرار أنّهم إن قبضوا على جمهور المسيحيين حصل هيجان في البلد أفضى إلى ما لا تُحمد عواقبه. ومن ثمّ، فاستدراكًا للمسألة، ارتأوا أن يطلقوا سراح جماعة السريان القديم [السريان الأرثوذكس] ليطمئنوا الأفكار، ويقصروا عملهم الخبيث على الكاثوليك فقط. فاستدعوا وجهاء السريان، وتهددوهم بالتنكيل والقتل إن أبوا دفع ما عندهم من الأسلحة إلى الحكومة، فأكّدوا لهم أنّ ليس عندهم شيء مما يتوهمون. فأسرّوا إليهم أن يؤدّوا مبلغًا للحكومة فتطلقهم، فوعدوهم ببذل كلّ ما يفرضونه، وخرجوا من السجن بلفيفهم يدعون للدولة. وغلب على ظنّ السيّد جبرائيل، مطران السريان الكاثوليك، أنّ اللجنة ستطلق أبناء جماعته كما أطلقت اليعاقبة، فرفع عريضة إلى ممدوح وزملائه يستمنحهم العفو، فلم يكترثوا لطلبه، فألحف [كرّر بشدّة] في السؤال، وألحّ في الاسترحام، واستعمل كلّ الوسائل، فلم يجبه أحد، لا سلبًا ولا إيجابًا. فتواجد الحبر الغيور وعليه البكاء، وبات متحيرًا من أمره.

وما صنعه السيّد جبرائيل صنعه المستر أندروس، المرسل الأميركي، في شأن أبناء جماعته المسجونين، فكان مثله مثل السيّد جبرائيل، فلزم غرفته، ولم يتجرأ أن يعارض اللجنة بتة.

واتفق أن عاد في تلك الليلة إلى البلد حلمي بك المتصرّف، فاجتمع باللجنة، وتصدّى للمحاماة عن المسيحيين، فلم يُعره أحد منهم أذنًا صاغية، فراجع الوالي في الأمر، فأتاه الجواب بعزله حالاً. وفوّضت الأمور إلى خليل أديب، رئيس الجزاء، حليف الخونة الأغرار.

ويوم الثلاثاء، إذ كان جرجس، مطران السريان اليعاقبة، والياس دولباني قسّهم، وجماعة من وجهائهم في دار الحكومة، قرع ناقوسهم، فابتدروا إلى الكنيسة، صغارهم وكبارهم، فاستخبرهم الكاثوليك عن السبب فقالوا: علمنا أنّ الحكومة مرسلة الجنود ليكبسوا الأرمن في دُورهم، ويفتكوا بهم، وبناءً عليه، رأينا أن نسارع إلى الكنيسة لئلا يُقضى على اليابس والطري، ويُعاقب المجرم والبري على حدّ سوى. وهم لكذلك، إذا بمطرانهم وحاشيته قد رجعوا، فأمروهم أن يعودوا إلى بيوتهم دون توقّف، فعادوا.

وبعد أن خرج رجال اليعاقبة من السجن،  شاكرين للحكومة، داعين لها بالنصر، راح أقطاب الشرّ ينزلون العذابات بالرجال الكاثوليك. فوافوا يوم الاثنين بعد الغروب بساعتين، الخناجر في أوساطهم، والعصي والسياط بيديهم، واستدعوا نعوم جنانجي، وعقلوا قدميه بالعقلة (الفلق)، وضربوه اثنتين وثمانين ضربة، فتجلّد عليها صابرًا، ثمّ اضطرّوه أن يمشي. وما وصلوا به إلى رأس سطح السجن حتّى دفعوه إلى أسفل، فتحطمت أعضاؤه، فنهض المسيحيّون الموجودون داخلاً، وحملوه، وجعلوا يسلّونه ويعزونه.

ثمّ نادوا أنطون كسبو إلى منقع العذاب، فقال له ممدوح: «كنتَ تحاول يا أنطون الخبيث أن تضبط البلد، وتستحوذ على أملاك المسلمين ودُورهم، وتستولي على بساتينهم وحقولهم، فهلمّ أُعطك رغائبك.» قال هذا وأمر نوري البدليسي، فعقله وصفعه أربعين ضربة بنيف. فسألهم أن يعفوا عنه، فيدفع لهم مهما طلبوا من المبالغ. فقال له ممدوح: «لسنا بمفتقرين إلى دراهمك، لكننا نرمي إلى السلاح المخفي عندك، أمّا أموالك وأملاكك وأرزاقك كلّها فبقيت في حوزتنا نتصرّف بها كما نحبّ ونهوى. فإن أحضرتَ السلاح نجوت، وإلاّ هلكت أنت وعشيرتك.» ثمّ أنّ رئيس الجزاء قال له: «أيخطر ببالك يا أنطون يوم وافى إلى مخزنك خضر جلبي ليشتري جوخًا فقلت له: هذا الجوخ لا يصلح لك يا خضر. أعلم أنّ خضر جلبي كان يريد مشترى ذلك الجوخ ليلبسه العسكر الخمسيني المزمع أن يأخذ روحك.» ثمّ ضربوه ضربًا وجيعًا على رأسه وظهره، وأخرجوه فطرحوه إلى أسفل كنعوم جنانجي، ثمّ جعلوه في المرحاض سبع ساعات يقولون احسب المرحاض كمخزنك. ثمّ اختلى به نوري البدليسي، وجعل يلاطفه، ويستخبره عن كميّة ثروته، ويعده بإطلاق سبيله. وقبل فجر الثلاثاء 8 حزيران سار إليه البدليسي تكرارًا، وقال له: «قد فاوضتُ جمعيّة الإصلاح الجهنميّة في أمرك، فقالوا أنّك لن تنجو من السجن إذا لم تدفع لهم السلاح.» ثمّ انقلب كأسد سالخ، ونشم يضربه ويزيده ألمًا، وينتف شاربيه، فكان أنطون يعاتبه ويقول: «أهذه نتيجة المحبّة والصداقة.» ثمّ تركه البدليسي وانصرف، وظلّ أنطون يتعذّب ويتألّم.

وليلة الأربعاء [الأصحّ الثلاثاء] 8 حزيران استحضروا عبد الكريم باطري الأرمني من الثكنة، واعتقلوا قدميه، وضربوه 150 ضربة، وكانوا يعدّون الضربات تشفيًا، ثمّ أخرجوه، وقذفوا به إلى أسفل.

واستدعوا بعده مال الله، شقيق السيّد اغناطيوس مالويان، وأنزلوا به الضربات الشتّى، يلحّون عليه في استحضار الأسلحة. ثمّ انتدبوا سعيد عشو البروتستانتي، واضطروه إلى الإقرار بأسماء المشتركين في الجمعيّة الأرمنيّة. فقال لهم أنّ الجمعيّة ما انتظمت إلاّ بمعرفة الحكومة، وكان رجالها يحضرونها. فلم يغن قوله فتيلا، فضربوه ضربًا عنيفًا بالعصي والمقارع، ثمّ جرّوه كرفاقه، وألقوه من السطح إلى أسفل، فانكسر ظهره، وتضعضعت أعضاؤه.

ثمّ استدعوا اسكندر آدم، واستنطقوه سرًّا، فظلّ صامتًا. فعلّقوا حبلاً ضخمًا في سقف الغرفة الجهنميّة، وأوثقوا قدميه، فغدا رأسه منكوسًا، وضربوه ضربات شتّى أينما كان، وتركوه كذلك بضع ساعات طبقًا لأمر ممدوح. فلمّا ازداد وجعه انتدب نوري البدليسي ووعده بمبلغ، فحلّ وثاقه، ونزل به إلى السجن، وقبض من شفيق ابنه مبلغًا. وقبل الفجر وافى إليه، فأرجعه إلى الغرفة، وأوثقه حتّى يراه ممدوح حين عودته كما تركه.

وصباح الأربعاء تاسع حزيران، وافى ممدوح وطلعة بن عبدي أفندي، فقال طلعة: «اعلموا يا نصارى أنكم أولاد حماره.» ثمّ قال لاسكندر آدم: «أما تذكر يا اسكندر يوم لطمك والدي عبدي في القيصرية، أتريد لك حرية، خذ لك خرية.» قال هذا وطفق يضربه ويلطمه حتّى تعبت يداه الأثيمتان. ثمّ قال مستهزئًا: «مر ابنك غسطو عضو الإدارة ليبادر وينقذك.»

وعند الظهيرة استدعوا سعيد ابن الوزير، وطفقوا يضربونه أوجع الضرب، وبلغ بهم النفاق إلى أن صبّوا عليه البترول وحرقوه، ففاضت روحه بيد الربّ العادل.

ثمّ استدعوا الأب ليونار الكبّوشي، واحتفَوا به [بالغوا في إكرامه، للسخرية]، وجعلوا يلطمونه، وينتفون لحيته، ثمّ جلفوا أظفاره عن أصابعه، وعلّقوه منكوسًا زهاء ساعتين، وتناوبوا في ضربه بالسياط والعصي، ثمّ أخرجوه ودعوه دعًّا إلى أسفل، وكانوا يقولون له: «ادعُ فرنسا لتستعجل في إنقاذك من يدنا، صِح بالراهبة لتأتي وتسلّيك، انتدب أصحابك ليخلّصوك.» أمّا الأب الوديع فلزم السكوت مستودعًا أمره بيد ربّه.

ثمّ أحضروا المقدسي حبيب دي جروه السرياني، وقالوا له: «أما تخطر ببالك يا حبيب يوم أَذعتَ على لسان النصارى أصحابك أنّ الروس عما قليل يصلون إلى ماردين، وينقذونكم من أيدي المسلمين؟ أكتب لهم إذًا، واستعجلهم على القدوم يا مغرور، فقد ساء ظنّك، وخاب أملك، ولم يبق من عمرك سوى القليل.» ثمّ ضربوه، ولطموه، وعادوا به إلى محلّه.

على هذا الأسلوب عذّبوا الوجهاء والشرفاء، وفيما ذكرناه كفاية لمن شاء الوقوف على ألوان العذابات، وهمجيّة الكفرة القساة…


محاكمة المطران اغناطيوس
مالويان ، اللقاء مع أمّه
( ص. 172-178)

…وأرسلوا في استدعاء السيّد اغناطيوس، رئيس أساقفة الأرمن، إلى المحكمة. فقام من ساعته وتبع الجنود. ولَمّا دخل الردهة، ألفى الهيئة مستوين على الكراسي، يتجهمونه، ويزلقونه بأبصارهم [ينظرون إليه نظرة حادّة]، ولم يمكنوه من الجلوس كأمس وما قبل، فتحققت لديه الخيانة والدسيسة، وأطرق ساكتًا لا ينطق حرفًا، ولا يرفع طرفًا. فبدأوا يناقشونه ويطارحونه الأسئلة في أمر البواريد والمدافع والأسلحة المزعومة، وأوردوا له الأسانيد [ما استندوا إليه] التي اعتمدوا عليها تأييدًا لما توهموا. فأنكر عليهم الحبر الجليل مقالتهم بتاتًا، وقال لهم: «إنّ ما بلغكم عنّي وعن جماعتي إفك [كذب] محض، فإن صدقتموه واعتقدتموه فينا فما جرى على غيرنا يجري علينا، وإلاّ فعلى ما يلوح لي أنّكم تريدون لنا السوء عن غير علّة، ذلك لمن أعجب الأمور وأغربها.»

فألحّوا على المطران باستخراج المدافع وتسليمها لهم، فقال: «قلتُ وأقول، هوذا الكنيسة ودار المطرنة وغرف الكهنة ودُور وجهاء الطائفة، فتّشوا ودقّقوا ما استطعتم، عمّقوا وحقّقوا جهدكم، فإذا عثرتم فيها على شيء مما ادعيتم فلكم أن تنزلوا بي وبجماعتي وبكلّ مَن ينتمي إليّ أغلظ النكال، وأفظع العذاب، وإلاّ فما بالكم تتقولون الأباطيل، وتناقضون الحقّ اليقين، حال كونكم لا تجدون لنا جرمًا ولا ذنبًا كبيرًا أو صغيرًا.»

وما أتمّ المطران الشجاع كلامه حتّى فار فائر الحضور، ونبض عرق الغضب بين عينيهم، وطفقوا يضجّون ويصفّرون ويقولون: «بل عندك أسلحة تحاول أن تناصب الحكومة وتقاتلها، ولكن تريّث فسترى عقابك وعقاب جماعتك تجاه عينك». قال لهم المطران الباسل: «دعواكم هذه فرية بلا مرية [كذبة لا يصدقها أحد]، فإنّي لم أخالف الدولة في شيء البتة بل دافعتُ وأدافع عن حقوقها سرًّا وجهرة، وأحامي عن صوالحها قدر الطاقة لأنّي منتم إليها، وقد حصلتُ على الفرمان الشاهاني والنوط العثماني من فضلها.»

قال له ممدوح: «أعلم يا هذا أنّك طبقًا لشهادة سركيس ابن طائفتك قد استحضرتَ صندوقَي أسلحة إلى كنيستك.» ثمّ أخرج مضبطة من جيبه، ونشرها يقرأ فيها أنّ سركيس أحضر الصندوقَين إلى غرفة المطران إذ كان الوجهاء والأعيان حاضرين، فتناولوهما شاكرين لسركيس، مثنين على همّته. ثمّ تلا عليه أسماء الشهود المرقومة في تلك المضبطة المزعومة، كدرويش بن خضر أفندي، مدير تل أرمن، وعبد الرحمن القواس، ومحمود عبدالو، ونجيم مدير بنك الزراعة، وغيرهم. فدُهش الحبر النبيل، وتعجّب، وقال للحضور: «عليّ بسركيس وإلاّ فالمضبطة مزورة وتقولاتكم مرجمة.» أمّا هم فأعاروا لمحاماته عن نفسه وعن طائفته أذنًا صمّا إذ كانوا قد سبقوا ففتكوا بسركيس. وجعلوا يتبصرون في تضاعيف جوابه علّهم يصيبون منه فلتة أو هفوة للتمثيل به.

فقال له خليل أديب، وكيل المتصرّف: «أعلم أنّه لَمّا وافى إليك سركيس بالأسلحة وجد في غرفتك زعماء طائفتك الخونة كنعوم جنانجي، واسكندر آدم، وانطون كسبو، وأخيك مالي، فاستلمتم منه الصندوقَين، ودفع له كلّ منكم ليرتين. فما لك إذًا تخلط في الكلام، وتخفي عنّا الحقيقة.»

قال المطران البارّ: «يا للغرابة، قلتُ وأقول لكم أنّكم لفي غرور، فإنّ هذه الدعوى ملوية معمسة [غامضة] لا أصل لها البتة»…

… وما أبطأ ممدوح أن نهض من كرسيه، وشمّر لضربه، فقال للجنود الواقفين: اسطحوه. فسطحوه للحال في صحن القاعة، فتناول المخصرة [العصا أو القضيب] ليصفعه. فقال له المطران البطل: «مكانك يا رجل، لا تتعدّ طورك، فإنّه لا حقّ لك أن تجري معاملة كذا اعتدائيّة بمن استعرفته الدولة العلية بمثابة أحد الايمة، وأنعمَتْ عليه بنوط الشرف والفرمان.»

قال ممدوح مستهزئًا: «السيف يسدّ اليوم مسدّ الدولة، وفرمانك لا يغني فتيلاً، ونوطك لا ينفع شيئًا.» فقاطعه أحد الحضور، وقال للمطران: «لا بدّ من التنكيل بك وبجماعتك، فإنّ ما أبديتَ من الحجج باطل لا سند له، بيد إنّي، دلالة على محبّتي لك، وشفقة على حالك، أبذل لك نصيحة، إن عملتَ بها نجَوت من الموت، وبقيت معززًا مكرّمًا محترمًا في أعين جميعنا، وإنّ تلك النصيحة إلاّ المجاهرة بالاسلاميّة والمناداة بالهَــيْــلَــلَــة» [لا إله إلاّ الله].

قال المطران برباطة جأش: «الإسلامية؟ كلاّ، معاذ الله أن أهجر ديني، هيهات هيهات أن أجحد مخلّصي، أنّى يُتاح لي ذلك، أنا الذي ربيت في حجر البيعة الكاثوليكيّة المقدّسة، ورضعتُ أفاويق [لبن الناقة] تعاليمها الصافية، وتضلعتُ من حقائقها الراهنة حتّى غدوتُ، دون استحقاق، أحد رعاتها. إنّي أحسب سفك دمي في سبيل إيماني أشهى شيء لقلبي، لأنّي عارف حقّ المعرفة أنّي، إذا عُذّبتُ حبًّا لمن مات لأجلي، غدوتُ من السعداء المغبوطين، وفزتُ برؤية ربّي وإلهي في عليين. فما لكم إذن إلاّ أن توسعوني ضربًا، وتعملوا فيّ الخناجر والسيوف والبنادق، وتقطعوني إربًا إربًا، فإنّي لن أجحد ديني أصلاً وقطعًا.»

فما كان من القوم إلاّ أن ضجّوا واشمعطوا [امتلأوا غضبًا] وحولقوا وتشهدوا وحملقوا في الراعي أبصارهم، وأطبق أحدهم كفّه ولطمه قائلاً: «أهكذا تستحقر ديننا في المكان الرسمي، والله إنّي لأعذبنّك أشدّ العذاب، وأذيقنّك الموت الزؤام.» ثمّ ضربه ممدوح ضربات معدودة، وأمر الجنود أن يذهبوا به إلى مكان الضرب والعذاب. فكأنّ المطران تنهّد عند ذاك وقال: «إنّي أُكابد في جسدي عذاب الضرب الأليم، وأمّا في نفسي فإنّي أحتمل ذلك مسرورًا» (2 مقا 5). 3

وعند الليل، أقبل نوري بن زلفو البدليسي، في الهيئة المذكورة آنفًا إلى حيث كان الحبر الوديع، فسدحه [ألقاه بطحًا على الوجه أو على الظهر] على الأرض، وألقى العقلة في قدميه، وضربه اثنتي عشرة ضربة. كان الحبر، عند كلّ ضربة، يصيح بأعلى صوته ويقول: «يا ربّ ارحمني». ثمّ أمروه أن ينهض ويذهب إلى المحلّ المعيّن له. لكنّ الراعي، لوهن قوّته، لم يستطع إلى المسير سبيلاً، فسحبه أولئك الأوغاد من قدميه على الحضيض سحبًا عنيفًا، فترضضت هامته المباركة، وانخلعت أعضاؤه المقدّسة، فنادى يقول: «مَن يسمع صوتي فليعطني الحلّة الأخيرة». فسمعه القسّ بولس سنيور، وكان بالقرب من الشباك التحتاني، وتلا على المطران صورة الحلّة.

أمّا الخبثاء، فتركوا المطران ملقى على الأرض جثّة هامدة، وراحوا يستحضرون آلات العذاب، ثمّ سارعوا إليه، فجلفوا أظفاره عن أصابع رجليه، وأشفقوا [سَتَروا] على يديه لئلا يراهما أحد. وظلّ على تلك الصورة، من صباح رابع حزيران إلى العاشر منه، يولمه أصحاب الذمّة والمروءة والشفقة ويعذبونه. وكان يرى أبناء جماعته معذبين، ويسمع نحيبهم وعويلهم، فيبعث في أفئدتهم روح البسالة والشجاعة، وينشطهم ليقتحموا الأخطار، ويجودوا بالحياة القصيرة أسوة بمن ضحى لأجلهم بحياته الثمينة على خشبة العار…

وما برح المطران الغيور يقضي ليالي السود في السجن، باسطًا ذراعيه، ورافعًا عينيه إلى السماء، يصلّي ويبتهل إلى الله ليخوّله الفوة والعضد له ولجماعته كأنّه سبستيانس البطل…

ومما يفطر القلب، ويجرح الفؤاد، أنّ والدة هذا الحبر العجوز البائسة كانت تروم أن تشاهده فلا يتيسر لها. غير أنّه، ليلة استياقه مع جماعته، أرسل في طلبها، بعد استئذان الطغاة. فحادثها بكلام دُبّج بالعذوبة والرقّة، وقال: «يا أمّاه، تيقني أنّ الله ربّي ومخلّصي لمثل هذا اليوم استبقاني. فبحقّي عليكِ، لا تحزني ولا تبتئسي. لا تخشي ولا تكتئبي. إعلمي أنّي غدًا قبل الفجر أسير مع جماعتي على طريق ديار بكر، ولستُ أدري ما سيحلّ بي وبهم. غير أنّي مستعد، بمعونة ربّي، أن أبوء بدمي حبًّا لمن فداني. فهلمّي الآن أودعك. صلّي لأجلي، وعودي إلى بيتك بسلام. أوصيك أن تبذلي النصح والإرشاد لجميع آلي، ليقتفوا خطواتي، فيثبتوا راسخين في إيمانهم، ولا يخافوا هجمات العتاة، ولا يكترثوا لوعد الأعداء ووعيدهم.»

وعند ذاك، اغرورقت عينا الأمّ وابنها معًا بالدموع السخينة [الحارّة]، وتوادعا بحزن وكآبة، وعند عودتها أوصاها أن ترسل إليه حالاً حذاءً واسعًا ليقوى على المسير. ولم يستحسن أن يوضح لها أنّ الورم قد أثر في قدميه لسبب الضرب الشديد لئلا يزيد قلب الأم المًا ووجعًا.


عذابات الأب
ليونار ملكي والراهبات الفرنسيسيات
ص. 244-251 

انفجرت الدواهي على المسيحيين منذ خامس كانون الأوّل 1914، وتتابعت عليهم ضروب الأرزاء [المصائب] والنوائب. وإليك تفصيل ذلك نقلاً عن دفتر الأب ليونار النبيل.

صباح اليوم المرقوم، كبس كنيسة الكبّوشيين اثنا عشر جنديًّا، وجزموا بأن يطلعهم الأبوان عن اسميهم، وأسماء الراهبات معًا، ويفيداهم عن وطن كلّ منهم. فقيل لهم أنّ الأب دانيال الشيخ الوقور إيطالي النحلة، وأنّ الأب ليونار لبناني الأصل، ماروني المِحْتِدُ [الأصل]، وكليهما يمثّلان دولة فرنسا، ويخدمان ديرها، طبقًا لامتيازات الدول. وقالا لهم أنّ من الرواهب ثلاثًا هنّ عثمانيات، مولودات في ماردين، وهنّ باسيفيك وأسومبسيون وأغاتا، والبقية مولودات في فرنسا، لائذات بحماها، متفيئات بوريف ظلّها.

وعند ذاك ركب الجنود شيطان السخط والحرد، فنهضوا من فورهم، وفتشوا الغرف، وبحثوا عما فيها، ثمّ ختموها كلّها، وأخرجوا الراهبين، وأوصدوا الأبواب، وقصدوا توًّا دير الراهبات، وعلّقوا يعربدون عليهنّ، ويسمعونهنّ كلامًا جفيًّا غليظًا خدش أسماعهنّ الطاهرة.

وإنّا ليعرونا الحياء والخجل من إيراد ما قاله وافتعله أولئك الأجلاف في دير الرواهب الحواصن. فإنّهم، عدا ما أفحشوا في الكلام، تصرّفوا في الأمتعة كما طاب لأهوائهم، بل ضربوهنّ ودفعوهنّ إلى الأرض، وأمروهنّ أمرًا فصلاً بالتنحي عن غرفهنّ، والخروج من ديرهنّ. ثمّ أغلقوا الحُجَر [الغُرَف]، وختموا الأبواب، فتجمهر إذ ذاك الرعاع يتحيّنون الوقت المناسب ليفوزوا من دون تعب بالغنائم والمكاسب.

أمّا الأب ليونار، فلمّا رأى ما أجرى هؤلاء العتاة، انحدر من ساعته إلى الكنيسة، وفتح بيت القربان، وأخرج الكأس المقدّسة باحترام، ولفّها بمنديل نقي، وضمّها إلى صدره، وسار بها إلى دار الخواجا حنا مركيزي الأرمني، ورجع حالاً إلى الدير يريد البقاء فيه ليلته. فقال له أحد الجنود: “لا محيص لك من مغادرة الدير، وإلاّ فليس لك أن ترقد إلاّ في بيت المونة.”

وما مضى من الليل ثلثه، حتّى أقبل محمد كبوشو الخبيث، الذائع صيت فظاظته، الشائع خبر غلاظته، وجمع الفرش كلّها، وسار بها إلى دار الحكومة، وأخرج الأب ليونار خارجًا، فحار في أمره، وظلّ يرعى النجوم حتّى الفجر. وصباح الأحد سادس كانون الأوّل نقل كأس القربان إلى كنيسة السريان، وأقام فيها الذبيحة الإلهيّة.

وأقبل في ذلك اليوم جماعة من رجال الحكومة، فاستدعوا الأبوين، وأمروهما باستخراج ما في الدير من الأسلحة والمدافع مما لا أثر له. وكانت تلك دسيسة ومكيدة اختلقها عبد الرحمان القواس، صاحب الرحى، انتقامًا من الكبّوشيين. فجال الجنود في الدير متبخترين، وبحثوا عما زعموا مدققين، ولم يذروا موضعًا إلاّ دخلوه، ولا ثقبًا إلاّ وسّعوه، وأفضى بهم الأمر إلى إنزال أشخاص إلى البئر عساهم يجدون فيها أسلحة، فعادوا بالخيبوبة.

ورام الأب ليونار مساء ذلك اليوم أن يبيت ليلته في الدير فلم يأذن له الجنود، فقصد دار الخواجا حنا مركيزي ولزمها أربع ليالي لا يخرج منها أبدًا. وظلّ الخصوم يفتشون وينقرون وينقبون، من سابع كانون الأوّل إلى العاشر منه، يفتحون الغرف، ويبعثرون الكتب والأوراق، ويعيثون في الأمتعة والأغراض، ويتجنثون [يأخذون ويخبأون] على ما طاب لهم دون معارض، لا يراقبون الله، ولا يستحون من عبد. ثمّ قصدوا دير الراهبات، وفتشوا الحُجَر أجمع، وفتحوا الصناديق، واستبحثوا عما فيها، وتلعّبوا بها، ثمّ كوّموها على بعضها، وأغلقوا الأبواب، وختموها، وحشروا الراهبات في غرفة واحدة، وانكفأوا إلى منازلهم يترقبون الفرصة للاستيلاء على المال والدار كليهما.

فضاق ذرع الأبوين، وعميت عليهما طرق التملّص، فكتبا إلى أديب، نائب المتصرّف، في أن يرخّص لهما أن يُعدا الزاد للرواهب، ويسعيا في أمر سفرهنّ، فأضرب عن الجواب، واتخذ الطلب لغوًا. فكتبا في ذلك الشأن إلى القوميسير أيضًا، فلم يجبهما. بل أضافوا إلى ذلك أنّهم أقاموا خَفَرة [جمع خفير أي حارس] على بابَي الديرَين لا يدعون كائنًا مَن كان أن يدخل أو يخرج، ووضعوا خفرًا أيضًا على بابَي دار الخواجا مركيزي.

وفي ثامن كانون الأوّل، أمر أديب الوكيل، ففتح الأبوان كنيستهما، وأقاما الفروض الدينيّة، وظلّ الجنود يوافون إلى الدير كلّ أُصبوحة وأمسية يأكلون ويشربون على كيس الرهبان. على أنّ الذين كانوا، فيما سلف، يودّون الرهبان ويجلّوهم، أخلقت خضراء مودتهم، فقلبوا لهم ظهر المِجَنّ، وتغيّروا عليهم، وعلّقوا يحفرون لهم الحفائر [جمع حفيرة أي القبر].

وعاشر كانون الأوّل استكرى الراهبات أربع عجلات بثمانين مجيديًا، وركبن إلى ديار بكر. وفي غيبوبتهنّ شخص القوميسير في جماعة من البوليس إلى الدير، وفتحوا الصناديق والخزانات والصرر والأسفاط [جمع سفط أي ما يُعبّأ فيه من أدوات النساء] واختلسوا ما طاب لهم. واجتمع وقتئذ لفيف من الرعاع على الأبواب ينادون ويقولون: الآن نحوّل الدير جامعًا، والمدرسة مكتبًا. بل أنّ امرأة مسلمة أقبلت حاملة مكنستها تقول: أين الجامع الجديد الذي ضبطناه من فرنسا، فقد نذرتُ أن أكنسه بيدي. فصاح بها فرج الله كسبو، معلّم المدرسة، وزبرها [نهَرَها] وقال: «اصمتي يا سفيهة، وارجعي إلى بيتك.»

وفي ذلك اليوم، مرَّ بتلك الجادة جرجس مطران السريان اليعاقبة، يصحبه الراهب يشوع، فبادر الأعلاج وخطفوا قبعتيهما، وألقوهما إلى الأرض، فزجرهم المطران وقال لهم: «أوظننتم أنّنا فرنساويون فعاملتمونا هذه المعاملة؟ كلاّ، بل إنّنا عثمانيّون، فعلامَ يا ترى تحتقرون مَن ينتمي إلى تركيا، ويتباهى بالدولة.» فسكت أولئك الصبيان، وردّوا لهما القبعتين.

أمّا الراهبات، فلمّا وصلن إلى ديار بكر، بلغن الوالي أنّ ثلاثًا منهنّ عثمانيات. فأصدر الأمر برجوعهنّ إلى ديرهنّ. فقفلن راجعات، ووصلن إلى ماردين في 24 كانون الأوّل، ليلة عيد الميلاد. وتبادر إلى الظنّ أنهنّ يستلمن الدير بما فيه. غير أنّه خاب الأمل، فلزمن دار الخواجا مركيزي أربعة أشهر.

وفي 7 كانون الثاني 1915، نادى المنادي في الشوارع أنّ أغراض الرواهب تُعرض غدًا للبيع، فمن شاء مشترى شيء فليحضر. فاحتشد في الغد رجال المسلمين ونساؤهم، وحضر معهم نفر من النصارى، ولا سيما اليعاقبة، وما دخلوا الدير حتّى بعثوا عجيجهم وضجيجهم، وطفقوا يزأطون ويهرجون، وفكّوا الختوم، وباعوا الأغراض كلّها بالمزاد، عدا الصور والتماثيل مما لا يفيدهم. ثمّ أخرجوا الحلل الكهنوتيّة، وصحنوها بأقدامهم النجسة، بعد ما انتقوا منها ما يصلح لكسوتهم. وأفرزوا الشموع والقناديل والشماعد، فأخذوها إلى الجامع الكبير، وظلّوا يبيعون ويشترون مدّة ثلاثة أيّام حتّى أمسى الدير خاويًا خاليًا كأنّ البناء قد خرج منه جديدًا.

ومنذ عاشر كانون الثاني، خصصوا دير الرواهب بالجنود، فكان العسكر منذ إ ذٍ يجتمعون في ذلك المعهد المقدّس، ويسرفون الليالي في الأكل والشرب والسكر وسائر أنواع الخلاعة والملاهي والبطر مما حرمه الله تعالى. وأمروا المؤذن أن يؤذن كالعادة على سطح الدير، في الأوقات الخمسة، ورفعوا الناقوس، وحاولوا أن يكسروه، إلاّ أنّ أحد المسيحيين تصدّى لذلك، فصرفهم عن سوء نيّتهم.

وتاسع شباط، نُقلت الكتب والكراسي وجميع ما تبقى من الأمتعة إلى الجامع، وشغل الغرف بعض الموظفين، ما عدا غرفتين أنعموا بالواحدة على الأب دانيال، وبالأخرى على الأب ليونار.

ويوم الخميس 11 شباط، أقبل خمسة وخمسون من طلبة المسلمين، حاملين الرايات والبنود، منادين بالهَيْلَلَة والحَيْعَلَة [حَيّ على الصلاة، حَيَّ على الفَلاح]، ودخلوا ساحة الكنيسة، وسكنوا في المدرسة. وأذاعوا مذ ذاك أنّ الكنيسة وسائر مشتملاتها ستغدو مركزًا للحكومة والتلغراف معًا. وبدأوا يختلفون إلى الدير، صباح مساء، واحتووا بالمرّة على كلّ ما فيه، كما يُقال، من النحاس إلى الرصاص، دع الذهب والفضة والأمتعة والأثاث، من جملتها أشياء كثيرة كانت للمسيحيين المنتمين إلى الكبّوشيين، فراحت صدقة راسهم، وأمست طعمة للحكومة وأعوانها. نذكر من ذلك طنفسة [بساط] كبيرة عجميّة بلغت قيمتها نحو ثلاثين ليرة ذهبًا كانت للخواجا عبد المسيح بطيخه، وطنافس غيرها مبلغها ألفا غرش كانت لفرنسيس توماس. وكان للخواجا الياس بعبوصي طنافس بمبلغ ألفي غرش، وليوسف آحو جلود بألفي غرش، وللمعلّم رزق الله سلمو ثلاثة أكيال حنطة، ولقرينة يوسف مغزل صف برباعيه الذهبية ولآليه بألفي غرش. فهذه الأغراض برمّتها استولت عليها الحكومة، وتصرّفت بها كما أرادت.

فعرض الأبوان الأمر على حاكم البلد، فوعدهما مواعد عرقوب [اسم رجل كان أكذب أهل زمانه]، ولم يردد لهما ما طلبا. وعلاوة على ما أوردنا، أنهت الحكومة إلى مستأجري دكاكين الكبّوشيين أن يدفعوا الأجرة لها، لا للكبّوشيين. فحار الأبوان في أمرهما، وغابت عليهما طرق المعيشة والنجاة. واتصل الخوف بالكاثوليكيين إلى حدّ أنّهم لم يعودوا يجسرون أن يفتقدوا الأبوين ويزوروهما.

على أنّ أعداء الدين لم يقفوا عند ذلك الحدّ من التعدّي والجور والعسف بل تجاسروا فألقوا القبض على الأب ليونار في خامس حزيران 1915، واستاقوه إلى السجن حيث كان السيّد اغناطيوس وجماعته، على ما وصفنا. ولشدّ ما جنوا على الأب العزيز، ونكلوا به، فإنّه ما كاد يصل إلى باب السجن حتّى استلمه البواب بلهوجة، ولطمه بشراسة. واجتمع أحزاب الشرّ، وأحاطوا بالأب الوديع، وطفقوا يصفعونه ويرفسونه وينتفون لحيته ويقولون: «ادعُ فرنسا لتبادر وتنقذك». ثمّ نكسوه على رأسه نحو ساعتين، وتكالبوا على ضربه الضرب الوجيع، واقتلفوا أظفار يديه ورجليه معًا، ثمّ دحرجوه في الدرج، فأُغمي عليه، والله يعلم ما ناله من تباريح الآلام وألوان العذاب لَمّا ساقوه مع القافلة الأولى في عاشر حزيران حتّى فتكوا به ولفظ روحه الطاهرة بيد خالقها…

أمّا الأب دانيال الشيخ الوقور فلم يمدد عليه الخصوم إذ ذاك يدًا أثيمة. فظلّ منزويًا في بيت محاذٍ للكنيسة لم يرقه الخروج منه أصلاً حتّى إذا كان 17 تموز 1915 قُبض عليه، وأُلقي في الحبس، وضُيّق عليه جدًّا، وابتزّ منه ممدوح وأصحابه ثلاثًا وعشرين ليرة عللوه بالاطلاق على أن يدفع مائة وخمسين ليرة علاوة، ذلك لتكون بمثابة مكافأة لهم عن سوقهم رفيقه الأب ليونار، وقتلهم إيّاه شهيدًا…

دفع الأب دانيال 150 ليرة ثمن دم القتيل الزكي، فأُطلق سبيله في ثالث آب، بعد ما قضى في السجن سبعة عشر يومًا. ولبث منزويًا في بيته حتّى 18 تشرين الثاني 1916، فسافر إلى حلب، فقونيه، صحبة الآباء الدومنيكيين.

أمّا ما جرى في الديرين والكنيسة، وما حدث من الخراب فكثير. فإنّهم هدّوا الحائط الجنوبي من رأسه إلى رأسه، وأضافوا ساحة الدير إلى الطريق العمومية، وجعلوا الكنيسة أهراءً، وخصصوا غرف كلا الديرين بمأوى العسكر المرضى حتّى اليوم.


استشهاد الأب
ليونار ملكي ورفاقه
ص. 184-197 

كانت ليلة الخميس عاشر حزيران ليلة عصيبة مشؤومة… كنت ترى في تلك الليلة السوداء التاعسة جنود الظلمة صاعدين إلى القلعة ونازلين مهرولين حاملين أغلال الحديد والحبال الضخمة والزناجير إلى السجن والثكنة. فكانوا يدعون زوجًا زوجًا، ويربطونهم ربطًا محكمًا لئلا يفرّوا من بين يديهم. يا للخبث واللآمة! ثمّ أفرزوا منهم الذين كانوا منضمين إلى الجمعيّة الأرمنيّة المزعومة، وكبّلوا رقابهم بالأغلال، وأَوثقوا معاصمهم بالسلاسل. وتشاغل الخصوم بالربط والشدّ والغلّ حتّى الهزيع الأخير من الليل، كذئاب هجمت على خراف، أو بواشق انقضّت على حمام، أو نمورة نشبت براثنها بفريستها.

وبعد أن رتبوهم زوجًا زوجًا، أخرجوهم من باب السجن والثكنة، وتكوكبوا عليهم من كلّ صوب، مشهرين فوقهم الأسلحة والسيوف، وأمروهم أن يلزموا الصمت التام. وبعثوا من فورهم مناديًا ينادي في المدينة: «مَن مِن النصارى خرج من داره مُثل به وأُضيف إلى أصحابه».

فساروا في الجادة العموميّة غلس [ظلمة آخر الليل] الخميس، وعددهم أربعمائة وسبعة عشر، من إقليرس وشيوخ وشبان أرمن وسريان وكلدان وبروتستان. ولَمّا مرّوا في حيّ المسلمين خرج نساؤهم النقرى [النساء اللواتي يعبنَ مَن مرَّ بهنّ] يصخبن جذلات، ويعَيِرن المسيحيين مستهزئات، ويبرقن ويرعدن عليهم بالويلات. وكان الأولاد يرجمونهم بالحجارة، ويسخرون بهم بأعلى أصواتهم. ولَمّا وصلوا بهم إلى حيّ النصارى، حجروا عليهم الخروج من بيوتهم، فضلاً عن أن يتفاوضوا معهم أو يودَعوهم. فظلّ المسيحيّون لازمين بيوتهم، واقفين عند سترة السطح، يبكون ويعولون ويضجون بالابتهال إلى الله ليخفف عنهم وطأة أعداء الدين، وينتصف لهم من الظالمين. وكان قوم منهم يلحظونهم من النوافذ يريدون البلوغ إليهم، فلا يتيسّر لهم. فكانوا كمريم العذراء ترافق ابنها الحبيب إلى الجلجلة، تشكو ظلم اليهود واعتداءهم على وحيدها البري.

أمّا المسيحيون، فكانوا يسيرون صامتين كطلبة قاصدين المدرسة أو بالحري نظير فاديهم وربّهم المحبوب، لا يُسمع لهم صوت، ولا تحتحة، كأنّ على رؤوسهم الطير. ولَمّا وصلوا إلى باب البلد الغربي خرج كلّ من الرهبان الافراميين والمرسلين الأميركيين إلى سطحَي معهديهم لينظروا أصحابهم النظرة الأخيرة، ويقرأوا عليهم آيات الوداع. فالفوهم والحقّ يُقال في حال كئيبة مرعبة تجمّد الدماء في العروق، وتلقي الرعشة في الأبدان…

سار المسيحيون موثقين أربعة أربعة وخمسة خمسة، وكان القسّان والمطران مربوطين آخر الجميع، والجنود محيطين بهم إحاطة الطوق بالعنق، وهم مدججون بالأسلحة، متنطقون بالبواريد، متزنرون بالرخوت [جمع رَخْت أي سَرْج]، والله وحده يعلم ما كان يلعب في دماغهم الخبيث من الهواجس والأفكار. إذ كانوا قد شمّروا عن قدم وساق، وفوّقوا لهم أصوب السهام، وكانوا يجرّسون بهم، ويحرّقون عليهم الأُرَّم [يحكّون أضراسهم بعضها ببعض]، ويضربون كلّ مَن لا يلحق رفيقه، سواء كان كهلاً أو شيخًا أو مريضًا أو جريحًا أو مصابًا بأيّ داء كان…

وتبادر إلى ظنّهم أنّهم عند بلوغهم إلى العين يستريحون هنيهة، ويشربون جرعة ماء، غير أنّ الخصم استعجلهم على المسير، فظلّوا يلوبون [يترددون] على الماء، فلم يُسمح لهم. أمّا ممدوح وأعوانه الخبثاء، فسقوا دوابهم وتبعوهم.

وما تبلج ضوّ الصبح حتّى نشموا يفرزون الشيوخ والعاجزين، وينحونهم عن البقية، ويبعدونهم إلى محل قريب، فيعرّونهم، ويأخذون أسلابهم [ما يُسلب]، ويقتلونهم، ويعودون… وصاروا كلّما أفرزوا منهم جمعًا، أبعدوا بهم وقتلوهم، ورجعوا وأجروا ذلك في كلّ مرحلة…

غبر أنّ السيّد اغناطيوس النبيل اكتشف على المكيدة، وشعر بالحيلة، وتحقّق أنّ الذين فُصلوا من القافلة قد قُضي أمرهم، وأُهدر دمهم، وراحوا ينالون ثوابهم. ومن ثمّ استدعى ممدوحًا الغملاج [غير الثابت على رأي واحد]، رأس أولئك المنافقين الأعلاج، وقال له: «ما عاد يتيسر لك أيّها المداجي أن تخفي علينا أبازيرك [زياداتك في القول] مهما جمهرت علينا الأخبار. فقد تأكّد عندي أنّ خرافي بأسرهم قد قتلهم أعوانك بأمرك، وما بقيت منهم عينٌ تطرف. بناءً عليه، لي طلبة أعرضها على جنابك راغبًا من كرمك أن تأذن لي في إنجازها. ذرني أجتمع بأولادي هنيهة من الزمان، وأبثّهم لواعج فؤادي، وأبلغهم كلمتي الأخيرة، وبعد هذا لك الحريّة أن تفعل ما ترى.»

فأمر ممدوح أعوانه أن يتنحّوا عن المؤمنين ساعة، فجثا الحبر الباسل وأقسّته وجماعته على الأرض، ورفعوا أكفّ الأدعية إلى ربّ الصباؤوت ملتمسين منه النجدة والمغوثة، فكان كملك مرجب يكتنفه جيشه الأمين، ويصغو إليه بمزيد الحبّ والشوق. ثمّ أضرم في فؤادهم جذوات الحماسة الدينيّة، واستنهضهم ليخوضوا غمرات المنون دون وجل، وتناول كسرًا من الخبز تلا عليها الكلام الجوهري، وأعطاهم الحلّ الأخير والغفران العامّ، وناولهم السرّ الأقدس ليؤيدهم في الإيمان، ويقوّيهم على احتمال العذاب. ثمّ باركهم وقال لهم: «لا تخافوا العَدد والعِدد، ولا تهابوا الوعيد والتهديد، استبسلوا في سبيل دينكم، واستقتلوا حبًّا بربّكم، واشتروا عذابًا زمنيًّا طفيفًا بغبطة سعيدة مؤبدة».

قال هذا والتفت إلى ممدوح يقول قد أنهيتُ العمل فاصنع ما راقك وأعجبك.

وبلغنا أنّه، لَمّا كان المسيحيون جثيًّا ركعًا يناجون الله مولاهم باخبات، هبط عليهم غمام نوري غطّاهم أثناء الصلاة، وفاحت في تلك البقعة روائح زكيّة طاب عرفها، وحلا شذاها مما لم يستنشقوا مثلها قط، ولاحت على محياهم أنوار عجيبة باهرة استلفتت أبصار القساة الواقفين، ولكنّها لم تؤثر في أنفسهم لشديد حنقهم واسترسالهم في الخبث. على أنّهم، كما أقرّوا على نفسهم، لم يروا في غابر حياتهم، ولن يروا أيضًا رؤية كذا عجيبة غريبة. ثمّ أنّ المسيحيين وراعيهم وأقسّتهم ابتسمت ثغورهم، وعلت سمات الجلال جباههم، وأحسّوا بتجديد قواهم، ورقصت أنفسهم طربًا، وخُيّل لهم أنّهم في نعيم السماء يحبرون، وقد ثملوا بحميا الغرام نحو فاديهم العطوف الحنون. وما أنهوا صلاتهم حتّى تقلّص عنهم الغمام، وكأنّ كلّ واحد منهم كان يناجي نفسه ويقول لها: يا نفس كوني عن الدنيا مبعدة، وخلفيها فإنّ الخير قدامي. أيّد هذه الرواية جماعة من الجنود والأكراد نقلوها خاصّة للنصارى الذين أسلموا حديثًا.

ثمّ أنّ الأعداء الذين خيّم على قلوبهم ظلام الضلال والغواية انفجروا كالذئاب على أولئك الخراف الوديعة، واستاقوهم إلى لحف قلعة زرزوان، فعرّوهم من ثيابهم، واستفرغوا كلّ الطاقة في تنكيلهم، ثمّ مالوا عليهم ميلة شنعاء، وقتلوهم عن بكرة أبيهم، ولم يفرطوا منهم نافخ نار… ولم يبق من أولئك الشهداء البسل سوى إمامهم الحبر القدّيس، فجعل يلحّ عليه ممدوح ليطلعه على دخيلة أمره، ويفيده عن مخزن الأسلحة والمدافع. فقال له الحبر الشهم: «أراك يا ممدوح تجهل أو تتجاهل إنّي قلت وأقول الحقّ، أن لا أثر ولا صحّة لما تزعم أنتَ وأصحابك. فهيّا أَفرغ فيَّ كأس سخطك، وألحقني بأولادي سريعًا لأشاهد حفلة زفافهم، وأشترك معهم في أفراحهم، ولا يَفُتك أنّه يشقُّ عليّ جدًّا أن ينالوا إكليل المجد دوني، ويدَعوني في هذه الدنيا الغرور وحدي. فالبدار البدار اضربني عذبني اذبحني اصلبني واهمر غصن حياتي فلا أعود أرى وجهك ووجه أمثالك.»

فصبر ممدوح نفسه، وكظم غيظه، وراح يكمل مفترض دينه، فقال للمطران الجليل: «أما بودّك أن تجاهر بالاسلاميّة؟» فقال له الراعي: «عجبًا تكرّر عليّ السؤال، وقد أجبتك غير مرّة، إنّي أحيا وأموت على إيماني القويم، وليس لي أن أتباهى إلاّ بصليب ربّي الكريم».

فحرج ممدوح أضراسه، وأخرج مسدسه، وأطلق الرصاص على الشهيد حتّى فاضت روحه وهو يقول: «اللهم ارحمني، في يديك أستودع روحي».

أورد باشو السرّاج غير مرّة متباهيّا بأنّه، بعد أن قتل ممدوح السيّد اغناطيوس الشهيد، قبض هو على لحيته، واستلّ خنجره وضربه في ترقوته [مقدّم الحلق في أعلى الصدر] تشفيًا ثلاث ضربات.

على هذا الأسلوب قضى هؤلاء الأربعمائة والسبعة عشر شهيدًا في قنن [جمع قنّة أي أعلى الجبل] الجبال، وبطون الوديان، كشهداء النصرانيّة الأوّلين الذين زيّنوا الكنيسة الجامعة بأكاليلهم الدمويّة، وانتصاراتهم على القوات الجهنميّة، وتمّ استشهادهم في العاشر والحادي عشر من حزيران 1915.


رواية القسّ متّى
خْريمو
ص. 208-225 

متى خْريمو كاهن سريانيّ كاثوليكيّ من ماردين يخدم في رعيّة المطران جبرائيل تبوني. تمّ توقيفه في اليوم التالي من رحيل الـقافلة الأولى من المبعدين. أُودع في السجن وعُذّب ثمّ اقتيد مع القافلة الثانية من ماردين، في 15 حزيران، وفيها 600 مبعد. نجا في اللحظة الأخيرة، وعاد إلى ماردين حيث روى ما جرى له ولرفاقه قبل أن يُلقى القبض عليه مرّة ثانية ويُقتل.
نورد في ما يلي النصّ الكامل لروايته، لأنّنا نقول بأنّ قافلة 11 حزيران وقافلة 15 حزيران كانا في الأساس قافلة واحدة، قُسمت إلى قسمين نظرًا لكثرة المبعدين فيها. هي المجزرة ذاتها حصلت في 11 و 15 حزيران: السيناريو ذاته في التوقيفات والتعذيب والنفي والقتل.

الـتــوقــيـــــف

عند ظهيرة السبت ثاني عشر حزيران، إذ كنتُ منزويًا في غرفتي أفتكر في حال المسيحيين وما صاروا إليه من الذلّ، فتح باب غرفتي صالح الفروخ، وفؤاد الكرجيه، ودخلا عليّ وشرار الغضب تقدح من وجههما، فقال لي صالح: «أنهض مسرعًا واتبعني إلى مقام البوليس». فقلتُ: «امهلني هنيهة». فخطف كتابًا كان بيدي، وألقاه إلى الأرض، وقال: «سارع». قلتُ: «ما لكَ ساخطًا، وما ذنبي، وما مرادك». فلطمني على خدّي لطمة دوختني، وقال لي: «أنتَ عضوٌ في الجمعيّة الفداويّة». قلتُ: «ساء ظنّك». قال: «استعجل وقم». قلتُ: «أبودك أن أرضخ لك بشيء من الأصفر». فتجهمني وقال: «اسمك مرقوم في الدفتر، ولا يسعني السكوت عنك».

على أنّ أقطاب الجمعيّة كانوا كلّ ليلة يكتبون أسماء مَن أرادوا سوقهم في ورقة خصوصيّة يدفعونها إلى البوليس في الصباح ليقبضوا عليهم. فتهيأتُ الرحيل. واستدعوا القسّ حنا طبي، وبطرس ملاش وافه [قندلفت] الكنيسة، وجرجس الموصلي خادم الآباء الدومنيكيين، وغيرهم ممن رأوهم في ساحة الكنيسة والغرف، وذهبوا بنا إلى مقام البوليس. فمكثنا ثمّ إلى الأصيل، فدوّنوا أسماءنا مع أسماء مَن أَحضروا من الأرمن والسريان والكلدان، وساقونا إلى السجن.

ونحن في الطريق بالقرب من دار الحاج علي بك، إذا بالأعلاج يسخرون منّا، ويقذفون بالحجار علينا، واتفق أنّ ثلاثة منهم تهوروا من السطح إلى الأرض في قلب بعضهم. 

الــــتـــعـــذيــب

ولمّا وصلنا إلى باب الحبس جعلوا يفتشون كلاًّ منّا. فضربوا القسّ حنا طبي، وأوقدوا لحيته بالكبريت، ثمّ أنزلونا وحشرونا في غرفة ضيقة حرجة، وبلغ عددنا نحو ثلاثمائة. وبعد الغروب بساعتين قبضوا على ثلاثة وثلاثين شخصًا، في جملتهم ميخائيل ماغي، المشلولة قدمه، فساقوهم بعنف إلى ساحة دار الحكومة، وطفقوا يضربونهم ويهمزونهم بالبواريد. ثمّ أخذوا حذاء ميخائيل المذكور وطربوشه وكيس دراهمه. وأقبلوا بهم إلى السجن، ودفعوهم من أعلى الدرج إلى أسفل. فصار مجموع النصارى في السجن ثلاثمائة وتسعة 4 من أرمن وسريان وكلدان وبروتستان.

واتفق أنّ توما شد، وفرج الله جرباقه قدما إذ ذاك من حلب، فكبس الجنود داريهما، واستاقوهما إلى السجن، وأضافوهما إلى جماعة المؤمنين.

واستدعوا في تلك الليلة بعض القسان والوجهاء إلى غرفة العذاب، وعلّقوهم بالحبال الضخمة، وانطبقوا عليهم يضربونهم بشراسة، كالقسّ حنا بنابيلي وغيره. وفي الهزيع الأوّل [الثلث أو الربع] من ليلة الاثنين رابع عشر حزيران، وافى السجان، وتقدم إلينا بالخروج قاطبة من تلك الغرفة. فأخذنا المُقيم المُقعَد، لشديد وجلنا ومزيد رعبنا، فخرجنا وصادفنا قومًا من الضباط والعسكر مصطفين، قلوبهم منشرحة، وآمالهم منفسحة، وأكبّوا علينا من الجهات الخمس، أعني من الميمنة والميسرة والمقدمة والساقة [المؤخرة] والقلب، ومضوا بنا إلى الثكنة.

الــربـــط  بـالــســلاســــل

ثمّ أَقبل أحد الضباط، وأمر القسوس أن يصطفّوا على حدة، فامتثلنا الأمر، وطفق يدعو واحدًا واحدًا، ويغلّله. وأوّل مَن استدعى القسّ متى ملاش، فألقى في جِيده [عنقه] طوق الحديد وهو يتهلّل بشرًا، ثمّ انصبّ علينا المشكوية والداشية كفارس بن حمي الباشا، وعمّه عمر، وواصي بن محمد سعيد آغا، وياسين ابن عمته، وغيرهم، وانتقوا منّا أربعة وثمانين شخصًا ألقوا في رقابهم أطواق الحديد. وغلّلوا كذلك يدَيّ القسّ حنا طبي، وأَوثقوه مع شاب أرمني من تل أرمن. ولَمّا نفدت الأغلال الحديديّة عمدوا إلى الحبال الضخمة، فأَوثقوا كلّ خمسة بحبل. وقام بقيّة العسكر مستلين سيوفهم فوق رؤوسنا مخافة أن ينهزم منّا أحد. ولَمّا انتهوا من الربط والغلّ كالعادة أقبل مأمور السَوق والعسكر الخمسيني من فورهم واحتفوا بنا. وكان نعمان النمس وأخوه أسعد واقفين، فاستدعيا المأمور وقالا له: «قد آن الأوان للفوز بغايتكم، فتقووا، ولا تكونوا كالماردينيين يوم ردعوا الأكراد سنة 1895 وحرجوا عليهم [منعوهم من] قتل النصارى». 

قــافــلــة الــمــنـفـيـيـــن

وما بزغ فجر الاثنين 14 حزيران حتّى استاقونا. ولَمّا بلَغنا إلى باب المشكية تعهدوا [تفحصوا] الحبال، فشدّدوا ما ارتخى، وأوثقوا ما انحلّ، وجعلوا يستلحموننا ضربًا وطعنًا، ويزيدوننا رفسًا وصفعًا، ويتفلون في وجوهنا، ويكفخونا [يضربون] بالعصى، ويوسعونا سبًّا وشتمًا، وينثتمون علينا بكلّ قول قبيح كما اعتاد لسانهم القذر. واتفق أنّ أحمد الشيال كان بجانبي يكثر من ضربي، ويتفل في وجهي، فما تماسكت إن قلت له: «إكفف يا غبي، يا كافر، أما تراني لاحقًا برفاقي صامتًا، دعني وشأني.» فتركني وانصرف إلى غيري. ولَمّا غادرنا العين القريبة نشموا في اختلاس ما زاد من الثياب، واختلاع ما عندنا من الدراهم ولفائف الدخان والطعام.

ومما يستحقّ الذكر أنّ الياس شوحا، بعد ما ساقوا إخوته الأربعة مع أوّل قافلة، وهم في شرخ الشباب، غدا طريح الفراش، تعذبه الحمى الشديدة، وكان الموت إليه أقرب من حبل الوريد. فلَمّا أُلقي عليه القبض، واضطرّ أن يسير معنا، أحسّ بأنّ قواه قد رجعت وصحّته تحسنت، فأولاه الله شفاء دون دواء. 

إسـتـــراحــــــة  الــــطــريــــق

وعند وصولنا إلى عين عمر آغا طلبنا مهلة لنشرب ماءً، فأمرونا بالجلوس، وأخذوا يصلحون البواريد، ويهيئونها للقتل، ويتشاورون على اختلاس الأسلاب.

ولَمّا شارفنا شيخان، ووصلنا إلى مزار الشيخ موس، أمرنا الجند أن نقعد ونقوم ثلاثًا، احترامًا لذلك المحلّ المعتبر عندهم. وكانوا مصممين أن يذبحونا ثمّ ويقدمونا ضحايا لشيخ موسهم المحترم. فوصلنا إلى المحل المرقوم، وربضنا عند ساقية الماء جياعًا عطاشًا هلكى من التعب، فأذنوا لنا أن نشرب ماءً دلالة على جودهم وكرمهم المشهور، لا بارك الله فيهم، والتمسنا أن يبيعونا خبزًا، فأحضروا لنا أرغفة شعير سوداء استطبناها وارتحنا. 

الـلـيـلـــة  فـــي  الـمـغـــارة

وما عتم أن جاؤوا إلينا يريدون أن يقسمونا قسمين، يذهبون بالواحد إلى المغارة، ويذرون القسم الآخر في محلّ الزيارة. فلم نرض لأنا توخينا العذاب والموت معًا، فقلنا لهم، بل نذهب بأجمعنا. فاستاقونا بين الأشواك والأوحال حتّى وصلنا إلى تلك المغارة لنبيت فيها تلك الليلة المشؤومة. فدخلناها ومكثنا بها زهاء ساعتين، والأكراد والعشائر كالزنابير [الدبابير] مزبأرين للشرّ وفي أيديهم الفؤوس والبواريد والخناجر وال مديات والسيوف والهراوى، فاستحوذ علينا الارتعاش. ثمّ أقبل المأمور، وطفق يخاطبنا بالتركيّة ما شرحه: «أولادي، إنكم مزمعون أن تمكثوا ههنا الليلة، غير إنّي أخاف أن يهجم الأكراد والعشائر ويأخذوا ما عندكم من النقود والخواتم الذهبيّة والفضيّة، فالأجدر أن تسلموني إيّاها، فأكتبها في ورقة على حدة، ومتى وصلتم إلى ديار بكر سلّمتُ كلّ ذي حقّ حقّه.»

فجمع المأمور ما شاء، وملأ حقيبة من الذهب والفضة والساعات والخواتم والسلاسل. ثمّ تأبّطها وانصرف جذلاً مسرورًا. وأقبل الجند بعده يفتشون عما بقي، فأخذوا أسلابنا وأموالنا وأحذيتنا وطرابيشنا وثيابنا، ولم يدعوا علينا إلاّ ما يسترنا. فلاح لنا إذ ذاك أننا عمّا قليل نغادر هذه الدنيا الغرور، ونخلص من رؤية تلك الوجوه المقيتة. فنهضتُ أنا وجميع إخوتي الكهنة رفاقي في النفي والاضطهاد، وجعلنا نحثّ المؤمنين ليتأهبوا لشرب كأس العذاب صابرين، فطفقوا يبكون ويصلّون ويدقون صدورهم ويقرّون بخطاياهم، ثمّ بدأوا يرنمون نشيد:

ننال ننال جزانا في السماء             ننال ننال جزانا في السماء

جزانا في السما لم تسمع به أذن         ولا رأته عين جزانا في السما

جزانا في السما هذا من الإيمان         وضيق ذا الزمان لا يوازي الجزاء

[النشيد من تأليف الطوباوي يعقوب الكبّوشي، أتى به إلى ماردين الأب ليونار إبّان زيارته إلى قريته في العام 1911 بعد أن قابل الأب يعقوب الذي كان في دير بعبدات]

ولبثنا كذلك حتّى السّاعة الثامنة من الليل، والخفرة يحرسون المغارة، والأكراد ينتظرون الساعة متى أزفت يشرحفّون [يتهيأون] للقتال وسفك الدماء. 

الـضـحــــايـــــــا  الأولـــــــــى

وما مضى القليل حتّى أوقع فينا أحد الجنود صيحة عظيمة ارتجّت لها المغارة، وارتجفت لها الأفئدة، وقال: «فليخرج كلّ مَن كانت يداه مغللتين وعنقه مصفدًا». فنهض أهالي تل أرمن وجماعة من أهالي البلد، والكهنة، بلغوا أربعة وثمانين، وودّعونا، وخرجوا، فجعلنا نحن الباقين نتلو السبحة الورديّة خاشعين، نسأل لاخوتنا المغوثة [الإغاثة] والحول، ونسأل لهم الثبات والأيد.

فازدحم الأكراد الأوباش والجنود الأوغاد على الأربعة والثمانين، وطفقوا يتقارعون على ثيابهم، والتحم القتال بينهم وبين العسكر الخمسيني إذ كان كلّ منهم يحاول مدّ يده على الغنيمة. فتشاتموا وتضاربوا وتصايحوا وتقاتلوا وضرب الجند كرديًّا فتكوا به، فذهب إلى لعنة الشيطان سيّده. ثمّ جدّ الجنود واجتهدوا في كشف الأكراد عن الخراف الوديعة، وطالت المناوشة بينهم. فلم يعد في وسعهم أن يرجعوا عاجلاً ويأخذوا غير من أخذوا، لأنّ النهار انتفخ. وكانوا يحاولون أن يتغدوا بنا قبل أن يتعشى بنا الأكراد، فخفق أمل هؤلاء وأولئك.

بناءً على ما قلنا رجع الجنود بعد ما فتكوا بأرواح إخوتنا، وقالوا لنا اخرجوا كلّكم. فشملت الرعدة فرائصنا، وقلنا لبقيّة الجماعة لقد برح الخفاء، وانكشف الغطاء، فلا بدّ من سفك دمنا كما سفك دم إخواننا. وما خرجنا من المغارة حتّى شدّوا أكتافنا، وقالوا إن شئتم أن تشربوا ماءً فاشربوا. فنزلنا لنشرب ونحن غافلون عما كاده لنا العسكر الخمسيني والأكراد، إذ كانوا قد احتجبوا عن أعيننا في الغِياض، ولزموا الصمت والسكوت حتّى إذا دنونا من الماء أطلقوا علينا البواريد، فبتنا مبهوتين على حالنا، حائرين في أمرنا، لا ندري أنشرب أم لا. غير أنّ أغلبنا استغنوا عن الشرب. أمّا الذين دنوا من الماء فأصابهم الرصاص، وقُتل منهم خمسة عشر، من جملتهم القسّ جبرائيل الأرمني، وحبيب الحلاق السرياني، وجُرح القسّ حنا بنابيلي، وجميل إيغو، ويوسف ترزيباشي، ورجل من تل أرمن، فهذا أُصيب بخنجر في عنقه حتّى شارف المنون، فأقبل أحد الأكراد ليعرّيه، فقبض ذلك المسيحي على خنجر الكردي وانتضاه وضربه به فجرحه جرحًا بليغًا…

الــــعــــــفـــــــو

…استأنفنا المسير عراة جياعًا عطاشًا صابرين. ونحن لكذلك إذا ثلاثة من الخيالة راكضين بسرعة من ديار بكر، رافعين أيديهم يصيحون: مكانكم مكانكم. فرفّ فؤادنا لمجيئهم، وعللنا النفوس بالنجاة، وما وصلوا إلينا حتّى قالوا لنا: قد جاءكم العفو، فادعوا للدولة بالنصر…

[يكمل الأب خريمو متى قصّة نجاته ورفاقه بفضل العفو الذي أصدره السلطان رشاد بمناسبة شفائه، وكيف وصلوا إلى ديار بكر، ومنها إلى ماردين حيث تمّ تحرير المنفيين غير الأرمن، وأودع الباقون في السجن ليتمّ سوقهم في قوافل لاحقة وقتلهم.]


رواية حنة
مالويان ، زوجة مال لله، شقيق المطران اغناطيوس مالويان
ص. 280-286 

قُتل المطران مالويان وشقيقه مال لله معًا في قافلة 11 حزيران. وفي 15 تموز، أُلقي القبض على نساء ماردين، وساقهم الجند في قافلة مماثلة. وكان بينهم تيريزيا، والدة المطران مالويان، وحنّة زوجة شقيقه مال لله التي تمكنت من الهروب والعودة إلى ماردين حيث أخبرت ما حلّ فيها وبرفاقها في القافلة. 

… استتلى كبيرهم يقول لنا: «إنّ رجالكم اليوم موجودون في حلب، وقد أرسلوا في طلبكم، فلا بدّ من إنجاز رغبتهم. غير أنّنا ننصح لكم أن تدفعوا لنا ما عندكم من الحلي لؤلوءًا وذهبًا وفضّة لأنّنا نخاف أن يغير عليكم شذاذ العرب والأكراد ويسلبوكم إيّاها. فالخليق بكم أن تستودعونا إيّاها لنصونها لكم في صندوقنا الأمين، ونحولها إليكم في حلب.» فدفعنا لهم صليبين وخاتمين وساعة ذهبيّة وسبحة كهرباء ثمينة، ثمّ جمعنا ما عندنا من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة حتّى امتلأ الصندوق. فأخذوا ذلك كلّه وقالوا لنا: «خذوا معكم ما يكفي لقوتكم يومين لأنّكم سائرون في طريق ويرانشهر». قالوا هذا وانقلبوا راجعين بالصندوق إلى دار الحكومة.

وفي فجر الجمعة 16 تموز، أقبل عشرة جند وعدّونا وأخرجونا ومضوا يحفون بنا حتّى وصلنا إلى باب الصور. وانضممنا إلى سائر النساء والرجال، يكتنفنا ستون جنديًّا، نصفهم خيالة من الوجهاء والمنصبين، ونصفهم رجالة. أمّا نحن، فركب بعضنا، ومشى البقيّة حتّى وصلنا إلى تلّ يبعد عن المدينة زهاء ثلاث ساعات، لا أدري ما اسمه. فأمرونا بالجلوس هنيهة لنستريح. وجعلوا يستدعون أربعًا فأربعًا يفتشون ما عندهنّ حتّى أفضت بهم الهمجيّة والمطامع فحلّوا قمط الأطفال وفتشوها واحدًا واحدًا. وأخذوا ما بقي عندنا من الحلي والفضة وملأوها في الحقائب، وانكفتوا إلى المدينة، فلم يبق معنا سوى قوم منهم ومن الضباط والعسكر الخمسيني. ثمّ أمرونا فنهضنا وأخذنا نغذّ في السير حتّى شارفنا تل أرمن. فتعبت السيّدة تيريزيا حماتي، والدة السيّد اغناطيوس، وكلّت عن المشي. فوافى أحدهم يقول: «دعوها هنا الليلة وفي الغد تلحق بكم». فسار معها اثنان منهم قدر رمية حجر، وما لبثا أن رجعا، فتحققنا أنّهما قتلاها. أمّا نحن فبتنا ليلتنا تلك في ضواحي تل أرمن.

واتفق أن مرّ بتلك الطريق سليمان نظيف بك، إبن سعيد باشا الأمدي، المشهور بمكارم الأخلاق، ومحاسن الخلال، فعوّل على استحياء بعض النساء، واستخلاصهنّ من براثن أولئك الذئاب. وكانت غايته على ما أكّد أن يمضي بهنّ إلى مقرّه، ويدرّ لهنّ الأرزاق والمعايش ريثما يخبو سعير الحرب الضروس. غير أنّ ممدوحًا، لعنه الله، تصدّى لسليمان بك، وعرض عليه أوامر رشيد الخبيث الناطقة بوجوب سفك دماء تلك القافلة قاطبة دون استثناء البتة. فقال له سليمان بك: «لا يخفاك أنّي أنا أيضًا والٍ، ولي من المقام ما لواليك رشيد، فذرني أنجز رغبتي، وأحقن دماء مَن يتيسر لي من هؤلاء المسيحيين المنكودي الحظ.» فما كان من ممدوح الكافر إلاّ أن عربد عليه ساخطًا وقال له: «أعرض عن رأيك وإلاّ أمرتُ الجنود أن يقبضوا عليك ويسوقوك قسرًا إلى ديار بكر مخفورًا». فصمت سليمان بك منذهلاً من توحش ممدوح وأصحابه، وانصاع إلى خيمته مستودعًا الأمور إلى الواحد العدل القهار.

وصباح السبت 17 تموز، أمرنا الجنود بالتأهب للرحيل، فنهضنا من ساعتنا وسرنا ومررنا بسوق تل أرمن، فكبسنا الأكراد الأجلاف، وحاولوا أن يخطفوا الفتيات والرضعان من أحضاننا، فأطلق عليهم العسكر البنادق، فتضاربوا وتقاتلوا ساعةً ونحن في القلب، ولم نصب بأذى حتّى بلغنا قرية تُدعى عبد الامام.

وعند الظهيرة وافى إلينا ابن إبراهيم باشا في رجاله، وعثمان آغا صاحب عبد الامام، واحتفوا بنا. ومكثنا في تلك القرية حتّى العصر معللين النفس بالرحيل إلى ويرانشهر، غافلين عن أنّ الذين حضروا، ما حضروا إلاّ لتهيئة الحفائر، وإعداد المقابر. وقصد ابن الباشا مَن كان معنا من الرجال، كبطرس جنانجي، وشكر كسبو، وفتح الله شلمي، وبولس مخولي بوغوص، وابن نعوم جنانجي، والورتبيد أوهنيس، وجعل يخاطبهم بما فطر عليه من الدهاء، ويملثهم بكلامه، ويعللهم بالرحيل والنجاة معًا. غير أنّه، قبل الغروب، عاد ابن الباشا فيمن معه، واستدعوا الورتبيد والرجال المومى إليهم، فقاموا إليهم وتبعوهم. فطفقوا يعرّونهم، وأنا أراهم، ثمّ أركبوهم عربة وهم عراة، وساروا بهم إلى الحفرة القريبة، فذبحوهم ورجعوا. وعند ذاك ارتفعت الأصوات، وارتجت القلوب، ودبّ الفشل فينا جميعًا، فتهددونا بالقتل أو نسكت.

ثمّ جعلوا يستدعون أسرة فأسرة، يعرّون النساء والبنات، ويركبونهنّ العربة إلى الحفرة المعهودة، فيقتلونهنّ ويرجعون حالاً. وكانوا قبل القتل يخيرون مَن أراد الإسلام شفقة عليه. يا للظلمة الكفرة. غير أنّ الياور [هو مساعد ممدوح] أعلن قائلاً: قد صدر حكمٌ جزمٌ وأمرٌ فصل بقتل الجميع دون استثناء.

أمّا الأكراد، فلشديد شبقهم، ومزيد حقدهم، جعلوا ينتقون من البنات والأولاد الصغار مَن استحسنوا واستطابوا. ورأيتُ ابن الباشا قد قبض على روزا امرأة شفيق آدم، وعلى سبع بنات غيرها، فما تماسكت روزا أن رفعت صوتها، والتفتت تقول للضباط: «ما بالكم يا هؤلاء صامتين، علامَ لا تحرجون على هؤلاء الأوباش أن يخطفونا، أما قلتم أنّكم لن تبقوا على واحدة منّا، فهلمّوا أنقذونا من يد هؤلاء الأنذال الأرجاس، واذبحونا كما أمرتم.» فسارع الضباط وتلقفوها وضمّوها إلى البقيّة.

غير أنّهم تركوا منيرة، بنت الخواجا يونان، قرينة فتح الله شلمي، بيد أولئك الأعلاج، فاستاقها الشيخ طاهر الأنصاري إلى مكان قريب، وأرادها على المنكر، فلم تطعه، ونصح لها لتسلم، فلم تجبه، فسخط عليها وقتلها وعاد بثيابها.

أمّا السيّدة شموني، قرينة نعوم جنانجي، فما كادت تغيب عن عياننا حتّى نشموا يعرّونها ويعرّون اللائي [اللواتي] معها، فما تمالكت أن صاحت بأعلى صوتها وقالت لهم: «قبحًا لكم أيّها الخالعون، ما لكم تغصبونا على ما لا يجوز. كنّا نظنّكم أصحاب دين وانفة ورحمة وشفقة، ولكنّه تأكّد لدينا أنّ لا دين في صدركم، ولا انفة عندكم، وإلاّ فمن حَلَّل لكم أن تُعرّونا. أما تقولون أنّ أعراض النساء أعراض السلطان، مَن مسّها مسّ السلطان. فما لكم إذًا تقترفون ما لا يحلّ… قد صدر الأمر بقتلنا، فاقتلونا غير مكشفات، واخلصوا من وجوهنا، ولا تنتهكوا أعراضنا.»

فحنق عليها الملاّ خليل، وقال لها: «اصمتي يا سفيهة، إننا عرفنا وتحققنا أنّك خائنة». فقاطعه الياور، وأصدر الأوامر إلى الأجلاف أن يدَعوا بقية النسوة مستورات، فاستاقوهنّ بقمصانهنّ إلى البالوعة، وأعملوا فيهنّ البنادق والسيوف والخناجر والعصي، وذبحوهنّ وقتلوهنّ دون رحمة وشفقة. وظلّت أمينة، بنت سعيد مخولي بوغوص، ما بين دواليب العربة مغميًا عليها، فظنوها ميتة، وتركوها في موضعها.

وآخر الجميع استدعوني لي ولجميع آل السيّد اغناطيوس مالويان إلى مكان المذبحة، فرأينا أولئك الكفرة يجرّون جثث القتلى وهي مخضبة بالدماء إلى تلك البالوعة، فيَكفِتونها [يكدسونها] فيها ويعودون. فلَمّا بلغت نوبتي عرضوا عليّ الاسلاميّة، فأنكرتُ عليهم ذلك، ووضعتُ ابنتي أزنيف في الأرض أمامي، وضممتُ ابني ألبير الصغير إلى حضني، وتأهبتُ للعذاب. فألحّوا عليّ أن أسلم وأنجو، فلم أرض. فطفقوا يضربوني بخناجرهم زهاء عشرين ضربة حتّى أُغمي عليّ، وغبتُ عن حسّي، وما عدتُ أعرفُ أحيّة أنا أم ميتة. ثمّ سحبوني من قدمي، وألقوني عريانة فوق الجثث.

وبعد مضي ساعة انتبهتُ فلم أرَ طفلي ألبير، أما ابنتي أزنيف فكان صياحها وهي على ذراعي العربي يجرح قلبي، وكنتُ أسمعها تقول: «أريد الذهاب عند أمي». فحرتُ في أمري، وفاضت أحشاي تعطفًا على ابنتي، وأمسيتُ كالمجنونة لا أدري أين أنا، وماذا أصنع. وكان أولئك الأشرار الكفرة قد انكشفوا عنّا، ولم يبقَ سوى عربي واحد، وجندي واحد، فقال هذا لذاك: «هلمّ نوقد مصباحًا نفتش عمن هي حيّة لنقتلها». فسارا إلى إحدى النساء وهي على آخر رمق ليقتلاها فإذا بها تقول لهما: «إن عفوتما عنّي أعطيتكما عشر ليرات». فحلاّ ضفيرتها [شعرها المفتول]، وأخذا المبلغ وقتلاها. ولَمّا وصلا إليّ التمستُ منهما أن يطلقا لي الحريّة لأذهب عند ابنتي، إذ كان أنينها يزعجني جدًّا ويؤلمني. غير أنّ العسكري ضربني على فلق رأسي ضربات شتّى حتّى غبتُ عن وجدي ثانية، فتركني يظنّ أنّي مت وانصرف.

وبعد مضي ساعة أفقتُ تكرارًا، وسمعتُ أنين ابنتي وهي مع رجل عربي اسمه جمعه، فاستدعيته وقلتُ له: «خلاك الله، خلني واصحبني مع ابنتي إلى بيتك». فقال: «أأنتِ بعد في قيد الحياة». قلتُ: «لا أدري، أرجوك أن تأخذني إليك». فدفع إليّ عباءته فتسترتُ بها وتقفيته والدماء تتدفق من رأسي وجسمي كلّه حتّى وصلتُ معه إلى قرية عبد الامام. ولَمّا دخلتُ إلى بيته فرش لي ولابنتي، فنمتُ حتّى الصباح. فأقبل الجيران يقولون لجمعه: «اذهب بها إلى موضع صواحبها واقتلها». فقال: «بل تبقى في جناحي وحمايتي». ثمّ انصرف إلى المقتلة ينبش الجثث، فعثر على أربع ليرات، فرجع بها مسرورًا وقال: «قد عوّلتُ أن أعالج هذه المرأة حتّى تستصح وتعود لها القوى». فاشترى خروفًا وذبحه ولفّني بجلده أربعًا وعشرين ساعة، ثمّ غسل جسمي، واستحضر نوعًا من العلك، ودواءً آخر مزجه بالسمن البقري، ودهن به جسمي، وزاول ذلك مدّة ثمانية أيّام حتّى اندملت جراحاتي، وثابت إليّ قوّتي، ولم أخرج خارج بيته إلى آخر كانون الأوّل 1915.

1 المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسير، كهنة السريان الكاثوليك، 1750-1985، بيروت، 1986، ص. 22. 2  اسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 244-251. 3  المرجع الصحيح هو 2 مكابيين 6 : 30 4  العدد الصحيح هو ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون.
شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013