إستشهاده
  |  
روايات الدومينيكان
Cross

الأب ماري دومينيك بِرّيه

الأب ماري دومينيك بِرّيه الدومينيكي(P. Jacques Rhétoré, Les Chrétiens aux bêtes, Cerf, Paris, 2005)
الأب ماري دومينيك بِرّيه الدومينيكي
(P. Jacques Rhétoré, Les Chrétiens aux bêtes, Cerf, Paris, 2005)

في بداية الحرب العالميّة الأولى، وقع الراهب الدومينيكي فرنسوا ماري دومينيك بِرّيه (S. Méen Le Grand 13 أيلول 1857 – الموصل، 4 نيسان 1929)، رئيس أساقفة بغداد لاحقًا، وزميلاه الأب جاك ريتوريه، والأب ياسنت سيمون، أسرى في يد العسكر التركي في الموصل، وتمّ ترحيلهم إلى ماردين التي وصلوا إليها في 26 كانون الأوّل 1914.
هناك، وبفضل تعاطف متصرّف ماردين، حلمي بك، والاستقبال الأخوي الذي خصّهم به مطران السريان الكاثوليك أغناطيوس تبوني، تسنّى لهم البقاء سنتين في المطرانيّة قبل أن يتمّ ترحيلهم مجدّدًا إلى كونيا، في 18 تشرين الثاني 1916.
في طريقهم إلى كونيا، أصيب الأب سيمون بداء التيفوئيد، فاضطر إلى البقاء في حلب لتلقّي العلاج اللازم، فيما أكمل زميلاه طريقهما إلى كونيا التي بلغاها في شهر كانون الأوّل 1916. عاد الأب بِرّيه إلى فرنسا في نهاية الحرب، ومكث في باريس حتّى نهاية العام 1919، ليعود إلى ديره في الموصل، وبقي فيه حتّى وفاته.1
من مقرّ إقامته في مطرانيّة السريان الكاثوليك، كان الأب بِرّيه يشهد عاجزًا على المجازر الفظيعة التي كان الأتراك يرتكبونها، فصبّ كل جهده وإمكاناته لنجدة المبعَدين، لا سيما النساء منهم، والفتيات اللواتي خلّص عددًا منهنُّ ليَحول دون ارتدادهنَّ مكرَهات عن دينهنّ المسيحي، والتحوّل إلى خليلات في حرائم الأتراك والأكراد. كما كان يلبّي طلب المطران في تزيين كنيسته بالرسوم، كما كان يفعل سابقًا في كنيسة الموصل.2
أمّا التقرير الذي رفعه من باريس إلى وزير خارجية فرنسا، بواسطة السيّد جان غو نائب مدير دائرة آسيا، والمؤرّخ في 15 كانون الثاني 1919، فقد نشره بالكامل، وعلّق عليه الدكتور ارتور بيليريان في “مجلّة هايكازيان للعلوم الأرمنيّة” (مجلّد 17، 1997، ص81-106). يتقاطع التقرير مع كتابات زميليه ياسنت سيمون وجاك ريتوريه، ويتميّز بتحليل فائق الأهميّة لأسباب المجازر. وفيما يلي نصّه بالكامل3:

أولاً :  مجــــازر مــــارديـن

1- التمهيد

في منتصف شهر أيار من العام 1915 أصدر الدكتور رشيد بك، والي ديار بَكر، أمرًا إلى حلمي بك، متصّرف ماردين، بإلقاء القبض على أعيان المدينة المسيحيين. قال له حلمي بك، في برقية جوابيّة، ما حرفيّته: «أنا لستُ عديم الضمير، وليس عندي أيّ مأخذ على مسيحيّي ماردين، وبالتالي فإنني لن أنفّذ أوامرك». عُزِل حلمي بك بعد بضعة أيّام، وعُيِّن مكانه لإدارة المتصرّفية موظَّف لم أعد أذكر إسمه، كان معروفًا بعداوته للمسيحيين.

قبيل ذلك، كان نائب من ديار بَكر قد جال على البلدات الكبرى في الولاية ليحضّ المسلمين على معاداة المسيحيين، معتمدًا الخطاب نفسه في كل محطّاته وتنقّلاته: «آن الأوان لتخليص تركيا من أعدائها المتربّصين بها في الداخل، ألا وهم المسيحيون. فكما لم يتحرّك الأوروبيون للثأر لأمواتهم بعد مجازر 1895 و1896 فهم لن يتدخّلوا هذه المرّة أيضًا. في أيّ حال، فإنّ حلفاءنا الألمان موجودون هنا لتقديم الدعم والمؤازرة لنا».

هكذا، ومع انطلاق حملة الشحن والتعبئة ضدّ المسيحيين، تشكّلت نواة حرس وطني عُرِف بالميليشيا، مؤلّف من مسلمي ماردين وجوارها، المعروفين بتشدّدهم وتعصّبهم، تحت ذريعة مساندة الشرطة في حفظ الأمن أثناء الحرب، لكنّ الهدف الحقيقي تبيّن لاحقًا.

قبيل انقضاء شهر أيار، وصل إلى ماردين مفوّض شرطة من ديار بَكر يُدعى ممدوح بك، مزوَّدًا بكامل الصلاحيات لتنفيذ أوامر الحكومة. ولدى وصوله، أُبلغ المسيحيّون بوجوب تسليم أسلحتهم فورًا، في مدّة لا تتعدّى الأربع والعشرين ساعة، على أن يُعاقب بالإعدام كلّ شخص يتخلّف عن التنفيذ. امتثل المسيحيّون للأمر، إذ لم تنوفّر لديهم إمكانيّات المقاومة، ومع ذلك، توالت المداهمات في كلّ مكان، لا سيما في كنيسة مطرانيّة السريان الكاثوليك حيث وصلت الأمور إلى حدّ فتح قبر أحد المطارنة الذي مات قبل وقت قصير. وكذلك الأمر في مطرانية الأرمن الكاثوليك التي تمّ تخريبها بالكامل، علمًا بأنّ هذه المداهمات لم تؤدّي إلى أيّ نتيجة.

وكان المطران مالويان، مطران الأرمن الكاثوليك في تلك المدينة، قد أبلِغ، في منتصف شهر أيار، بأنّ مكيدة تُحضَّر ضدّه. وبالفعل، قام أحد رجال الشرطة بإبراز ورقة بيضاء لشاب أرمني كاثوليكي من قرية تل أرمن القريبة من ماردين، وأمره، باسم والي ديار بَكر، بالتوقيع على تلك الورقة، تحت طائلة الإعدام. ثمّ دوّن الشرطي على الورقة ما يلي: «أنا الموقّع أدناه، أُصرّح بأنّي نقلت خمسًا وعشرين بندقيّة وخمس قنابل إلى مطرانيّة ماردين للأرمن الكاثوليك». ولمّا تجرّأ الشاب على رفض التوقيع على هذا الاتهام الجائر، سُجِن بضعة أيام قبل أن يتمّ إعدامه. وقد تسلّم المطران مالويان هذه الوثيقة سرًّا عن طريق صديق له كان يعمل في السراي.

وفي الثاني من حزيران جاء المطران مالويان إلى مطرانيّة السريان الكاثوليك حيث كنتُ أُقيم مع زميليَّ الأب ريتوريه والأب سيمون، وعهد إلى مطران السريان الكاثوليك، جبرايل تبوني، إدارة أبرشيّته. وبعد أن أخبرنا بالحادثة التي ذكرتها أعلاه، أضاف قائلاً: «أنا أعلم أنني مهدّد بالموت مع كلّ أبناء طائفتي، وأتوقّع أن أُسجَن بين لحظة وأخرى، لذا فإني أودّعكم الآن، لأنّه لن يتسنّى لنا اللقاء مجددًا على هذه الأرض الدنيا».

2- مجزرة الرجال

في صباح 3 حزيران ، عَلِمنا أنّ المدينة برمّتها غدت تحت قبضة رجال الدرك وأفراد الميليشيا. وأَعلن أحد المنادين أنّه يُحظَّر على أيّ شخص الخروج من المدينة، تحت طائلة الإعدام. وراح رجال الشرطة يجوبون الأحياء المسيحيّة، ويوقفون أعيانها من أرمن وكلدان وسريان، كما ألقوا القبض، في فترة بعد الظهر، على المطران مالويان مع إثني عشر كاهنًا من كهنته، وتمّ سجن مُرسَل كبّوشي من أبناء البلد يُدعى الأب ليونار. وفي اليوم نفسه، لدى مداهمة كنيسة المرسلين الكبّوشيين، تمّ العثور على سجلّ يتضمّن اسماء عدد كبير من الكاثوليك المنضوين تحت جمعيّة القديس فرنسيس الأسيزي. وفي مطلع هذا السجلّ كان يرد العنوان التالي، مكتوبًا بالعربيّة: «جمعيّة القديس فرنسيس» الذي ترجمه رجال الشرطة بـ«جمعيّة فرنسيّة»، واعتبروه دليلاً واضحًا على خيانة أهل ماردين الكاثوليك الذين ينتمون إلى جمعية سرّية فرنسيّة، وباتت تسمية «فرنسي» إهانة تُلصَق بهم في جولات التعذيب المريرة التي كانوا يتعرّضون لها في زنزاناتهم قبل أن يُقتلوا.

وتجدر الإشارة إلى أنّ من بين مسيحيّي ماردين مَن وافق على هذه التهمة السخيفة، إذ أكّد بعض وجهاء المدينة اليعاقبة للسلطات التركيّة بأنّهم لا يحظون بأي حماية خارجيّة، فيما يحظى الكاثوليك وحدهم، التابعون لبابا روما، بدعم الفرنسيين وحمايتهم. وجاء إعلان الولاء هذا ليجنّب يعاقبة ماردين المجازر، لكنه لم يحُل دون القضاء، شبه الكامل، على اليعاقبة القاطنين في سائر أرجاء المنطقة.

في غضون يومين أو ثلاثة، اكتظّت السجون بأربعمئة وعشرين شخصًا من عليّة القوم، وقد شهد الذين تمكّنوا من الاقتراب منهم، ومن بينهم أسقف من الإرساليّة الأميركية في ماردين يُدعى السيّد اندروس، على العذابات التي قاساها هؤلاء السجناء طوال ثمانية أيام، من دون أن يخضعوا لأي محاكمة، ولو صورية.

في صباح العاشر من حزيران، أعلن أحد المنادين في الأحياء المسيحيّة أنّ مَن يخرج من منزله في ذلك اليوم بالذات يُقتل رميًا بالرصاص. بعد ذلك، شهدت طريق ماردين الرئيسيّة مرور موكب كبير بقيادة ممدوح بك، ومواكبة رجال الأمن والشرطة والميليشيا. وكان المطران مالويان يتقدّم هذا الموكب الحزين، مقيّدًا كالآخرين، يرافقه الكهنة الإثنا عشر التابعون له، والأب ليونار، بالإضافة إلى أربعة كهنة سريان كاثوليك.

وراح الآلاف من المسلمين المتعصّبين، ومن بينهم نساء وأطفال، يتهجمون عليهم بالشتائم، ويرمونهم بالحجارة والأقذار، فاختلط صراخ هؤلاء الممسوسين بنحيب النساء والأطفال المسيحيين الذين أطلّوا من النوافذ، ومن شرفات المنازل، يودّعون آباءهم وأزواجهم المساقين إلى الموت. وإنّه لمن الصعب نسيان هذا المشهد المؤلم الذي يذكّر بمسيرة الصليب، والذي استمرّ حتى الخروج من المدينة. وقد تكرّر هذا المشهد مرّات كثيرة، ويا للأسف، في فترة الرعب اللاحقة التي استمرّت أشهرًا عدّة.

سَلَك الموكب طريق ديار بَكر. لم نتمكن من معرفة مصير المبعدين إذ تضاربت المعلومات بشأنهم: أكّد موظّفون أتراك بأنّهم وصلوا إلى ديار بَكر، فيما روى مسافرون عن مجزرة حصلت على بعد ساعات من ماردين. في نهاية المطاف، عرفنا الحقيقة: فقد أسرّ طبيب من العسكر التركي رافق الموكب إلى المطران تبوني بأنّ كلّ هؤلاء المساكين قُتلوا على طريق ديار بَكر، وأنّ المطران مالويان قُتل بدوره بطلقة في رأسه.

وفي 11 حزيران حصلت موجة توقيفات جديدة حيث حضر 3 أو 4 عناصر من رجال الشرطة وبعض أفراد الميليشيا إلى مطرانيّة السريان، واقتادوا خمسة كهنة وخادم المطران وخادمنا الخاصّ، وهو كلداني من ضواحي الموصل. اقتحم شرطي غرفنا، وأمرَنا بالذهاب مع الآخرين. ولمّا قلنا له إنّنا فرنسيّون، أجابنا بأنّه يمكننا البقاء مؤقتًا.

سُجِن حوالي مئتي شخص في ذلك اليوم، وبعد ثلاثة أو أربعة أيّام سلك موكب آخر طريق ديار بَكر، على غرار المواكب السابقة، وفي الظروف نفسها. ولديّ معلومات دقيقة عن معاناة هؤلاء الضحايا وآلامهم، إذ إنّ بعض الناجين من هذا الموكب رووا لنا ما حصل، وزوّدونا بتفاصيل تبدو لي في غاية الأهميّة، لأنّها تعطي، بالاستناد إلى شهود عيان، فكرة دقيقة عما حصل في مواكب الموت الكثيرة الأخرى التي سلكت، طوال أشهر، طرقات بلاد ما بين النهرين والأناضول وكردستان.

لدى وصول الموكب في المساء إلى قرية صغيرة تُدعى شيخان تقع على طريق ديار بَكر، على بعد ست أو سبع ساعات من ماردين، حُشر المئتا سجين في اسطبل صغير يكاد لا يتسع لثلاثين شخصًا، ودفعهم رجال الشرطة بمقابض بنادقهم إلى الداخل، وأقفلوا الباب وراءهم. وفي منتصف الليل، اقتيد حوالي أربعين شخصًا منهم، من بينهم كاهنان سريانيان، قبل أن يأمر رجال الأمن باقي السجناء بالمسير من جديد. وكان العجزة والأشخاص العاجزون عن اللحاق بالقافلة، بسسب العذابات التي عاشوها في السجن، يتعرّضون للضرب بالحراب ومقابض البنادق. مات بعضهم على الطريق، فيما كان قادة الموكب يرغمون هؤلاء المساكين، وكان معظمهم حفاة، على السير في مسالك وطرقات وعرة مزروعة بالأشواك والحجارة. وبعد مسير دام عدّة ساعات، توقّف الموكب عند مجرى ماء، وبدأ رجال الأمن والميليشيا يطلقون النار عشوائيًّا، فأصيب كاهن أرمني شاب مات ملقيًا رأسه على حضن أحد أخوته الكهنة.4

في تلك اللحظة، شوهد ضابط من الشرطة يتَّجه بسرعة نحوهم على ظهر جواده صارخًا: «أوقفوا إطلاق النار، لقد صدر العفو». ثمّ أمر بفكّ القيود التي كانت تربط المساجين ببعضهم البعض، وبعد أن أذن لهم بأخذ قسط من الراحة، دعاهم إلى اللحاق به إلى ديار بَكر للحصول على العفو الرسمي.

وبالفعل، وصلوا إلى ديار بَكر، وأمضوا يومين إضافيين في السجن حيث قام بعض المسيحيين المحسنين بتزويدهم بالطعام، قبل أن يتمّ نقلهم إلى ماردين. وعند إطلاق سراحهم، بعد أيّام من الاحتجاز، أخبروا عن التعذيب الذي تعرّضوا له في سجن المدينة. وقد تسنّى لي التكلّم مع بعضهم، ولا سيّما منهم ثلاثة كهنة من السريان الكاثوليك الذين عادوا للإقامة معنا في المطرانيّة. وكان أحدهم، وهو الأب متى خريمو الذي كان يناهز الستين من العمر، قد جُلِد 300 جلدة على باطن قدميه لأنّه «صديق فرنسا ويخضع لحمايتها». ولإرغامه على الوقوف على رجليه رغم آلامه المبرحة، وثقت يداه المبسوطتان في شكل صليب إلى حلقات مثبتة في حائط السجن. واقتلع له أحد الشرطيين لحيته، وقد أرانا إياها إذ كان يحتفظ بها في جيبه، فيما بصق آخرون في وجهه، معيِرين إياه بأنّه «صديق فرنسا» وكان هو يجيبهم بقوله: «هذا صحيح، أنا أحبّ فرنسا فعلاً لأنها حامية مسيحيّي الشرق».

إنّ تعداد العذابات التي خضع لها هؤلاء المساكين لا ينتهي، عِلمًا بأنّهم تعرّضوا جميعهم، من دون استثناء، للجلد على باطن الأرجل.

غير أنّ العفو الذي مُنح لأفراد الموكب الذين نجوا من الموت، والعائد ربّما إلى مبادرة وساطة لدى القسطنطينية للرأفة بالمسيحيين، لم يمنع حاكم ماردين الجديد، بدر الدين بك، من مواصلة خطة الإبادة التي أطلقتها الحكومة، إذ كان يردّد دائمًا أنّ «ما من مسيحي سينجو».

وما لبثت أن تشكّلت مواكب جديدة من الرجال عل دروب الموت، في اتجاهات مختلفة، كما ألقِيت مجموعات من العمال أحياءً في حفر عميقة قائمة قرب المدينة. وقد مرّ أحدهم خلسةً في ماردين، وروى أنّه أكل طوال أيام من جثث رفاقه، كما ذُبِح إثنا عشر عاملاً قرب باب المدينة، وقام بعض المسلمين برمي الحجارة على جثثهم التي لم تُدفَن حتى.

ولا بدّ من ذكر المجازر التي كانت تحصل، في الوقت نفسه، في كلّ القرى المسيحيّة المجاورة. فقد شهدنا إحراق مدينة «غاليه» الواقعة في أسفل جبل ماردين والتي كانت تضمّ حوالي ثلاثة آلاف نسمة من اليعاقبة والسريان الكاثوليك الذين قُتلوا بأجمعهم تقريبًا، على يد رجال الأمن الأتراك، بمساندة أكراد من القرى المجاورة الذين قاموا بإشعال النار لمحاصرتهم. ورأينا، على مدى أيّام عدّة، مرور صفوف طويلة من الفرسان الأتراك يحملون الغنائم المصادرة من تلك القرية.

بعد الفراغ من تصفية الرجال، باشر حاكم ماردين، بدر الدين بك، وشريكه ممدوح بك، بقتل النساء والأطفال.

3- مواكب النساء

كانت نساء ماردين المغلوب على أمرهنّ يدركن تمامًا المصير الذي ينتظرهنّ. فقد سبق أن شهدت شوارع المدينة مرور مواكب طويلة من النساء المساقات كالقطعان إلى الذبح من الولايات النائية في تركيا: أرضرّوم ومُوش وبورسَه وغيرها. كانت هذه المواكب تتوقّف عند مدخل المدينة حيث كان يُسمح للمسلمين باختيار الفتيات والنساء اللواتي يعجبنهم، واستبقائهنّ لديهم كجوار، ولا أدري إن كان لا يزال في ماردين بيوت مسلمة تضمّ حتى اليوم بعضًا من هؤلاء الضحايا. وقد علمتُ، فيما كنتُ أتنقّل في تركيا وحلب وكونيا والقسطنطينية أنّ المشهد نفسه كان يتكرّر في كلّ مكان، بحيث أنّ حرائم المسلمين ما تزال تضمّ، حتّى اليوم، نساء وفتيات مسيحيّات.

هذا، وعلمتُ من شهود عيان أنّ المسلمين، في بعض المدن، كانوا يجرون في ما بينهم عمليات بيع وشراء لشابات كانوا يخطفونهنّ، كما كان ضباط وموظّفون ألمان يحصلون على شابات أرمنيات في بعض المدن. وقد أكّد لي هذا الأمر فرنسيّون صدر بحقّهم حقّ الترحيل من ولايات مختلفة من الإمبراطورية، فاقتيدوا إلى كونيا، وشهدوا على هذه الممارسات. كما أعلِمتُ بالواقعة التالية: لدى اقتياد قافلة النساء، قام بعض العائلات الأرمنيّة بالطلب إلى القنصل الألماني حماية بعض الفتيات، وأعطوه المال اللازم لإعالتهنّ، لكنّه تصرّف على طريقة الأتراك، وسلّم الفتيات إلى بعض المسلمين عند اضطراره إلى مغادرة المدينة. أظنّ أنّ هذه الحادثة وقعت في سَمسون، ويمكن، في أيّ حال، الاستفسار عن ذلك من المُرحَّلين الفرنسيين الذين يمكنني الإفصاح عن أسمائهم.

كم من الجواري المسكينات تعرّضن للتعذيب سرًّا داخل الحرائم! فيما يلي بعض الوقائع:

– رأيتُ في ماردين فتاة في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها اقتُلعت أظافرها لأنّها رفضت اعتناق الإسلام.

– في صباح أحد الأيّام، وجدتُ فتاة في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها ممدّدة على الأرض، من دون حراك، في باحة مطرانيّة السريان في ماردين، لا تقوى على الكلام، بل تردّ على أسئلتي بالأنين. فأخذتها وعهدتُ بها إلى عائلة مسيحيّة تولّت إعالتها والاعتناء بها على حسابي. وأفادت الفتاة بأنّ المسلم الذي خطفها رماها في الشارع من على شرفة بيته بعد أن رفضت اعتناق الإسلام، فزحفت أرضًا تجرّ وركها المخلوع حتى وصلت إلى كنيسة السريان.

– روت لي أيضًا سيّدة كاثوليكيّة ماردينيّة شجاعة أنقذت عدّة فتيات من أيدي رجال مسلمين بأنّها سمعت مرّة، أثناء مرورها في أحد شوارع المدينة، صوت أنين صادر من أحد البيوت، فسارعت إلى فتح الباب لتجد أمامها رجلاً مسلمًا ينهال ركلًا ودوسًا على فتاة صغيرة تقارب الثامنة من عمرها، تنوء تحت كومة من الزبل. فانقضّت على المجرم، وطرحته أرضًا، وخلّصت الفتاة الصغيرة المسكينة، واستبقتها معها في بيتها.

أما الآن فأعود إلى وقائع تصفية النساء المسيحيّات الّلواتي سرن في المواكب.

4- قتل النساء

بعد الانتهاء من اختيار الجواري كان الموكب يكمل مسيره بقيادة السفّاح ممدوح بك، انطلاقًا من ماردين في أغلب الأحيان. وقد شهدتُ بنفسي على مرور أحد هذه المواكب أمام مطرانيّة السريان. ولن أنسى ما حييت ذلك العرض الحزين المؤلّف من ألفين أو ثلاثة آلاف من هؤلاء المسكينات في رحلتهنّ نحو الموت: كانت الكثيرات منهنّ يحملن أطفالاً على ذراعهنّ، وكانت معظمهنّ منهارات من شدّة العذابات التي قاسَيْنَها في المسيرات الطويلة التي اجتزنها مشيًا على الأقدام والتي بدأت، بالنسبة إلى الكثير منهنّ، قبل شهر ونيّف. وكان رجال الشرطة والدرك الذين يواكبونهنّ يعنّفن المتأخّرات منهنّ. وفي ماردين روت أمامي نساء نَجَون من المواكب فظاعة المجازر التي شهدن عليها، وأكتفي، فيما يلي، بنقل بعض هذه المشاهد البربريّة التي تعطي فكرة وافية عمّا كان يحصل على كلّ طرقات تركيا.

- اقتاد ممدوح بك موكبًا مؤلّفًا من نساء ينتمين إلى أثرى عائلات ديار بَكر حتّى تخوم قرية دارَه التي تقع على بعد ساعات من المسير جنوب ماردين. وكان بحوزتهنّ كلّ الذهب والمجوهرات التي يملكنها، فارغمهنّ ممدوح بك على خلع ملابسهنّ، وتولّى تفتيشها بنفسه، واستولى على الحجارة الكريمة والمجوهرات وقطع الذهب التي وجدها معهنّ، وكدّسها في أكياس. ثمّ تُركت النساء تحت رحمة رجال الأمن والميليشيا الذين مارسوا عليهنّ أنواعًا من التعذيب تفوق الخيال. أُلقيت بعدها جثثهنّ في سراديب كبيرة، في قصور بيزنطيّة قديمة تزخر بها قرية داره. وقد شوهد ممدوح بك في ذلك اليوم يدخل ماردين على ظهر جواد محمّل بكيسين كبيرين يحتويان حتمًا على الكنوز التي وجدها بين ملابس الضحايا.

مسيحـيّـتـان ماردينـيّـتان(Les Missions Catholiques, No. 1749, 12 décembre 1902, p. 595)
مسيحـيّـتـان ماردينـيّـتان
(Les Missions Catholiques, No. 1749, 12 décembre 1902, p. 595)

- وقد روت امرأة كانت في عداد الموكب، ورجعت فيما بعد إلى ماردين، الواقعة التالية: سار ممدوح بك بالموكب إلى تخوم قرية مسلمة تدعى حرّين تقع في السهل، عند أقدام جبل ماردين. هناك توقّف الموكب أمام بئر واسعة. وبعد انتهاء الممارسات الاعتياديّة من نهب وتعذيب أُلقيت الضحايا في البئر، فيما كان عدد كبير منهنّ ما يزال على قيد الحياة. وكانت السيّدة المذكورة التي بُتِر ثدياها آخر من أُلقيت على تلك الكومة من الأجساد المقطّعة التي تكاد تصل إلى فوّهة البئر. عند المساء، رأت عربيًّا ينحني لمشاهدة ركام الجثث هذا، فتوسّلت إليه أن يساعدها على الخروج. رقّ قلبه عليها فأخرجها من هناك، وأخذها إلى بيته حيث استبقاها لعدّة أيّام، وقدّم لها ما أمكن من العناية حتّى نجت من الموت.5

- في شهر أيلول 1915، التحقت بنا في ماردين إحدى الراهبات من أهل البلاد اللّواتي كنّ يتولّين التدريس في إرساليّتنا في سْعِرت كردستان، وقد زوّدتنا بمعلومات دقيقة عن المجازر التي شهدتها بنفسها. وبإيجاز، فإنّ السواد الأعظم من مسيحيّي سْعِرت قُتلوا، وكان عددهم يقارب الاثني عشر ألفًا، من أرمن وكلدان وسريان كاثوليك، وتعرّضت عائلات بكاملها للتعذيب في منازلها. كما قُتل كاهن كلدانيّ من قدامى إكليريكيّتنا في الموصل، وقُطّع إربًا في أحد شوارع المدينة. هذا، علاوةً على العدد الكبير من الرجال الذين تعرّضوا بدورهم لأبشع أنواع التعذيب التي شارك فيها مسلمو المدينة.

أما مطران سْعِرت الكلدانيّ أدّاي شير، وهو من قدامى إكليريكيّتنا، فقد تعقبّه رجال الأمن، وقتلوه رميًا بالرصاص أثناء محاولته الفرار.

وتمّ فيما بعدّ تشكيل مواكب كبيرة من نساء وأطفال من مناطق مختلفة، واقتيدت الراهبات المعلّمات في إرساليّتنا مع عدد من تلميذات مدارسهنّ ونساء أخريات كثيرات على الطريق التي تربط سْعِرت بماردين. وتمّ تسليمهنّ أثناء المسير لزُمَرٍ من الأكراد الذين كانوا ينتظرونهنّ في مكان متّفق عليه سلفًا. وبعد تجريدهنّ من ملابسهنّ، أوثقهنّ هؤلاء البرابرة ببعضهنّ في مجموعات صغيرة، بمعونة رجال الأمن، وأوثقوا بعض الأطفال بأمّهاتهم. ثمّ وضعوا كلّ مجموعة على مسافة معيّنة من الأخرى، وتولّى هؤلاء الممسوسون رجم أفرادها مطلقين صيحات الفرح كلّما أصابت ضرباتهم نكلاّ وتعذيبًا.

أمام هذا المشهد الرهيب، ترأّف أحد القادة الأكراد بحال هؤلاء الضحايا، فأخذ إلى بيته قرابة العشرين امرأة منهنّ، وأكرمهنّ بالعون والرعاية طوال أشهر. ثمّ أطلق بعضًا منهنّ، بعد أن تأكّد من أنّ عائلات مسيحيّة ستستقبلهنّ في ماردين، وكانت معلّمتنا من عدادهنّ. كما أرسل إلينا لاحقًا تلميذتين من مدارسنا في سْعِرت.

ولجأت إلى ماردين نساء أخريات من سْعِرت كنّ في مواكب أخرى، وأدلين بشهادات تطابقت مع المعلومات التي وردتنا عن المجازر في تلك المنطقة. وقد شهدن على كلّ ضروب التعذيب التي مورست على رفيقاتهنّ.

- روت لي سيّدة من محلّة الجزيرة الواقعة على الضفّة اليمنى من نهر دجلة جنوب ماردين ما حصل في بلادها حيث قُتل كلّ المسيحيّين، كما قتل المطران يعقوب، مطران الكلدان، في السجن، رميًا بالرصاص، والمطران ميخائيل، مطران السريان، وثلاثة كهنة آخرون من تلامذة إكليريكيّتنا. واقتيدت مواكب أخرى من النساء والرجال في اتجاهات مختلفة، وأُجهز على أفرادها.

- أعطاني كاهن كلداني من ديار بكر المعلومات التالية: لا أثر لكلّ الأرمن في المدينة، الكاثوليك منهم والغريغوريين، باستثناء حوالي مئة منهم قبلوا باعتناق الإسلام. أُلقي القبض على الوجهاء منهم أوّلاً، وُضعوا على عوّامات خشبيّة، بعضهم فوق البعض الآخر، وتمّ القاؤهم في نهر دجلة، ومن بينهم السيّد كاسابيان، الترجمان الرسمي لقنصليّة فرنسا في المدينة. أُحرق المطران الغريغوري في السجن، بعد أن سُكب النفط على جسده. ورُجم مطران الأرمن الكاثوليك خارج المدينة، بالرغم من الوعد الذي تلقّاه من والي ديار بكر، رشيد بك، بتجنيبه الموت مقابل مبلغ كبير من المال، لكنّه ما لبث أن أعدمه بعد حصوله على المال المطلوب. بالمقابل نجا المطران سليمان، مطران الكلدان، من الموت، مع قسم من رعيّته مقابل الفدية نفسها.

هذا، وفرض ممدوح بك على المطران جبرائيل تبّوني، مطران ماردين للسريان الكاثوليك، دفع مبلغ ثلاثين ألف فرنك من الذهب مقابل سلامته وسلامة أبناء طائفته، شرط إتمام الأمر بسرّيّة. تنادى السريان الباقون على قيد الحياة لجمع المبلغ، وباعوا كلّ ممتلكاتهم لتأمينه. وقد شاركتُ بنفسي في عدّ القطع الذهبيّة المجموعة. ولا بدّ هنا من ذكر الواقعة التالية: أوعز والي ديار بكر، في محاولة منه، على الأرجح، للتنصّل من المسؤوليّة لاحقًا، بأخذ صور لجثث مسيحيّين أُلبسوا عمامات بيضاء، معلّقًا عليها بالتالي: «مسلمون تعرّضوا للتعذيب على يد مسيحيّين!».

لن أضيف إلى هذه الوقائع المؤلمة التي طال سردها إلاّ بعض التفاصيل المتعلّقة بمقتل النساء في ماردين.

تعهّد متصرّف المدينة، بدر الدين بك، لنساء العائلات الثريّة، بعدم القبض عليهنّ إذا دفعن له ذهبًا. فقام عدد كبير منهنّ بتسديد مبالغ ضخمة تراوحت بين ثلاثمئة وخمسمئة ليرة تركيّة. ولكن ما هي إلاّ أيّام حتى حضر رجال الشرطة بسيّاراتهم، واقتادوهنّ من منازلهنّ، وكانت الجندرمه والميليشيا تواكب كلّ سيّارة. وقد شهدتُ بنفسي، من نافذة في مطرانيّة السريان، على انطلاق إحدى السيارات التي كُدِّس فيها كلّ أفراد إحدى العائلات الأرمنيّة الكبيرة الباقون على قيد الحياة: عدّة نساء، وأخ إحداهنّ، وابنها، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة أطفال. وانطلق الموكب نزولاً إلى السهل باتّجاه قرية تل أرمن حيث أُعدِم الجميع، في مكان غير بعيد من هذه القرية التي سبق أن قُتل فيها كلّ سكّانها المسيحيّين. وكانت زمر من الأكراد بانتظار الموكب، غير أنّي أحجم فيما يلي عن ذكر التفاصيل المروّعة التي زوّدتني بها إحدى الناجيات من العذابات التي قاستها هؤلاء الضحايا المسكينات. وقد رفضن جميعهنّ اعتناق الإسلام، باستثناء امرأة واحدة. ورُمِيَت الجثث في إهراءات وآبار فيما اختطف الأكراد بعض النساء وعددًا كبيرًا من الفتيات.

ووصلت في الأيّام اللاحقة مواكب كثيرة أخرى، لكنّ أفرادها من النساء والأطفال، باتوا مرغمين على المشي بدلاً من نقلهم في السيّارات.

أثناء إقامتي الأخيرة في القسطنطينيّة روى لي سليمان نظيف بك، وهو والٍ سابق على الموصل، أنّه التقى بأحد هذه المواكب على مقربة من تلّ أرمن، فيما كان عائدًا من بغداد. وإذ راعه ما شاهده من تعذيب لهؤلاء الضحايا، أراد نقل بعضهنّ في إحدى سيّارات موكبه، لكنّ موظّفًا خاصًّا أرسله والي ديار بكر لمؤازرة ممدوح بك في قيادة موكب النساء أمره بالتراجع، وترك هؤلاْء النسوة. فأراه بطاقته الرسميّة حيث يُذكر مركزه كوالي وقال له:

– «وماذا تفعل بي إذا لم امتثل للأوامر؟»
– «آمر الجندرمه بالقبض عليك وسَوقِك إلى ديار بكر».

أمام هذا التهديد، رضخ سليمان بك للأمر، إذ ربّما بَلَغته واقعة إعدام رشيد بك أحد قائمّقاميّي ولايته لرفضه قتل المسيحيّين.

وفي ختام هذا العرض، أورد فيما يلي بعض الأرقام التقريبيّة للمسيحيّين الذين قُتلوا في ماردين وجوارها، علمًا بأنّ هذا التقييم يستند إلى المعلومات المستقاة محلّيًّا:
كلدان كاثوليك: 000 18
سريان كاثوليك: 2700
سريان قدامى أو يعاقبه: 000 100
أرمن كاثوليك من ماردين: 7000
المجموع: 700 127


5- ملاحظات حول هذه الأرقام


– لم أتمكّن من تقييم عدد الأرمن الذين قُتلوا في قرى هذه المناطق بسبب النقص في المعلومات الدقيقة.

– أجرى وجهاء اليعاقبة تحقيقًا دقيقًا في المجازر التي ارتُكبت في قرى عديدة ومهمّة من مناطق ديار بكر وماردين ونصيبين وطور عابدين، وظهر بنتيجته أنّ 000 100 قتيل منهم، على الأقلّ، سقطوا في تلك المجازر. وقد لجأ عدد كبير من سكّان طور عابدين إلى بعض قرى الجبال المحصّنة، بسبب موقعها الجغرافي، فقاوموا حتى النهاية كلّ هجمات القوات التركيّة التي أُرسلت للسيطرة عليهم، بل أنّهم استولوا على المدافع التي كانت مصوّبة إلى تلك القرى.

– لم أذكر، مع كلدان تلك الأنحاء، مواطنيهم النسطوريّين في جبال كردستان الذين تفيد معلومات لم يتسنّى لي التأكّد من دقّتها بأنّهم قُتلوا في معظمهم، وكان عددهم يناهز الــ 000 80 شخصًا. وتبقى هذه الإحصائيّات بحاجة إلى الاستكمال.

– بحسب المعلومات التي استقيتها من مصادر عدّة خلال أسفاري، إنّ عدد المليون قتيل المذكور في المنشورات الصادرة في حينه ليس مبالغًا فيه على الإطلاق. وإذا أضفنا إليه عدد ضحايا الجوع والبؤس الناجمين عن المجازر أظنّ أنّه يبقى دون الأرقام الحقيقيّة. لا يمكن الجزم في هذا الموضوع إلاّ بإرسال لجان تحقيق تتولّى التقصّي محلّيًّا.


إذا أضفتُ كلّ المعلومات التي زُوّدتُ بها من شهود عيان عن المجازر التي ارتُكبت في أنحاء أخرى من تركيا، يُصبح هذا التقرير طويلاً جدًّا. وبالفعل، فبعد أن نقلتني السلطات العثمانيّة من ماردين إلى كونيا، في منتصف شهر كانون الأوّل 1916، تسنّى لي لقاء عدد كبير من الناجين الذين كانوا شهودًا على هذه الممارسات البربريّة.

أثناء مروري في حلب، تسنّى لي الاطّلاع على وثيقة بالغة الدقّة حول المجازر الأخيرة التي حصلت في دير الزور، وهي مدينة واقعة إلى الضفّة اليمنى من نهر الفرات، في منتصف الطريق بين حلب وبغداد. وهذا التقرير الذي كتبه موفد خاص للقنصل الأميركي في حلب تضمّن تفاصيل دقيقة جدًّا عن الوضع المذري لآلاف الأرمن الذين احتجزهم رجال الأمن الأتراك في مخيّمات وقرى ممتدّة من الرقّة على الفرات إلى دير الزور. وأكتفي بذكر تفصيل واحد في هذا السياق وهو أنّ هؤلاء المساكين الذين كانوا محرومين، في كلّ مكان تقريبًا، من الطعام، كانوا يقتاتون من العشب وحتّى من براز الحيوانات.

هذا، ويمكن للإنكليز والفرنسيّين الآتين من ولايات مختلفة، وأُبعِدوا إلى كونيا، أن يقدّموا معلومات دقيقة عن المجازر التي شهدوا عليها. ومن بينهم من شهد على مجزرة إبادة مسيحيّي أورفا، ويمكنه أن يروي الممارسات المقيتة لقائد القوّات الألمانيّة يومها الذي أشرف بنفسه على قصف الأحياء الأرمنيّة.


ثانيًا :  أسبــاب الـمـجــــازر

بعد العرض غير الكامل للوقائع، ينبغي الإشارة إلى الأسباب. أنا لا أدّعي معالجة هذه المسألة بما تستحقّ من شموليّة، وما تتطلّب من حجج. وأنا متأكّد بأنّها عُرضت من قبل الدبلوماسيين والكتاب البارزين الذين يملكون معلومات موثّقة، وهم أكثر كفاءة من الكاتب المتواضع لهذا التقرير. وسأكتفي، في هذا الجزء الثاني من عملي، كما في الجزء الأوّل، على نقل ما وصلني من مصادر موثوقة، وما شاهدته بنفسي.

وقبل تناول هذه المسألة، أجد أنّه من الضروري توضيح الأمر التالي: هل كانت هذه المجازر بمثابة أعمال انتقاميّة؟ وبعبارة أخرى: هل كان الأرمن مذنبون؟

وإذ أطرح هذا السؤال، لأنّ الأمّة الأرمنيّة كانت وحدها المتهمة، ويجري الكلام، في كلّ مكان، عن مجازر الأرمن. ويتضح من العرض السابق أنّه تمّ إبادة أكثر من 120،000 مسيحي غير أرمني في ماردين وديار بكر وجوارهما لوحدها. ربّما يكاد العدد لا يذكر، وهو حلقة بسيطة من حلقات المجزرة الرهيبة، ومع ذلك، وجب أخذ هذا الرقم في الاعتبار. ولو أنّه تمّ القبول بذنب الأرمن، وجب تبرير القيام بقتل الجموع البريئة والمسالمة. وينبغي أيضًا، في حال اتُّهمت الأمّة الأرمنيّة بأكملها، استبعاد النساء والأطفال، على الأقلّ. اعتقدت حكومة طلعت باشا، ولجنة “الاتحاد والترقي”، تبرئة نفسهما أمام العالم المتحضر، وتقديم الحجج التالية:

– إنّ الأمّة الأرمنيّة كانت دائمًا متمرّدة على قوانين الإمبراطوريّة، ومعادية للحكومة العثمانيّة.     

– إنّ الأرمن، المشكوك بتواطئهم مع العدو، يجب إبعادهم عن مناطق الحرب
.     

سوف أُقدّم بعض المعلومات التي يمكن استخدامها لتحديد قيمة تلك النقطتين:

1- ما من شكّ أنّ اللجان الثورية عملت، في أوروبا وتركيا، من أجل الحصول على استقلال بلادهم. إنّ مدينة وان في تركيا، على وجه الخصوص، هي المركز الرئيسي لعمل هذه اللجان، منذ فترة طويلة. ومن دون محاولة التقليل من مسؤولية تلك اللجان، اسمحوا لي بهذه الملاحظة البسيطة: بعد الاضطهادات التي مورست بحقّ أمّتهم من قبل الحكومة التركيّة في كثير من الأحيان، بخاصّة إثر مجازر العامين 1895 و 1896، من حقّ هذه اللجان، إلى حدّ ما، تحرير الأمّة من النير العثماني.

على أيّ حال، هل يمكن القول بأنّ الأمّة الأرمنيّة بأكملها هي وراء هذه الحركة الثوريّة؟

بعد أن أقمتُ علاقات جيّدة مع العائلات الأرمنية الأكثر نفوذًا في مدينة وان، وأكبرها شأنًا، وذلك لسنوات عديدة، أستطيع القول إنّ التاجر الغني في هذه المدينة كان معارضًا تمامًا لأفكار أعضاء هذه اللجان، بخاصّة الدعاية المعادية للمسيحية التي كانت تقوم بها في المدارس وفي الصحافة. وكانت هذه العائلات كلّها تتذمّر من طغيان رؤساء اللجان الذين كانوا يجبرونهم على دفع مبالغ كبيرة من المال لهم، في أوقات محدّدة، تحت طائلة القتل. ولم تبق تلك التهديدات من دون تنفيذ: من المعروف أنّ منازل كثيرة في وان تمّ إحراقها، واغتيالات انتقاميّة حصلت بحقّ الذين رفضوا الخضوع لهذه الإنذارات، ولتخويف المترددين.

اغتيل مختار وان، السيّد كاباماجيان، قبل بضعة سنوات، عند باب منزله، لأنّه عارض علنًا ممارسات اللجان.

باستطاعتي القول إنّ غالبيّة الناس، بخاصّة سكّان الأرياف الذين يكدّون في العمل، لم يكن يريدون سوى الانصراف إلى أشغالهم في الحقول، والعمل على تصريف منتجاتهم، بكلّ راحة وهدوء. وأضيف بأنّ اللجان كانت تأخذ دائمًا على الأرمن الكاثوليك عدم المشاركة معها في الدسائس الثوريّة، بسبب نقص الروح الوطنيّة لديهم. كما أشهد بأنّ أرمن ماردين، وجميعهم من الكاثوليك، ومطرانهم مالويان، لم تكن لديهم علاقات سياسيّة مع اللجان: كان المطران مالويان قد تلقّى، قبل وقت قليل من بدء المجازر، التهاني الرسميّة على موقفه المخلص دائمًا للسلطات الحكوميّة.

بما أنّ السلطات العثمانية كانت على علم تامّ بجميع أعضاء اللجان، وأفعالهم الثوريّة، يجوز لنا أن نسأل: لماذا لم تقم بتقديمهم إلى العدالة؟ صحيح أنّه أُلقي القبض على جميع رؤساء اللجان في وان، وتمّ زجّهم في السجن لبعض الوقت، في أواخر عهد عبد الحميد، لكنّ الأتراك الشباب، ما أن استلموا الحكم، حتّى سارعوا إلى إخلاء سبيلهم، وأبدوا لهم كلّ مجاملة وإطراء.

في إحدى الأيّام، تجرأتُ وطرحتُ على الجنرال جابر باشا، والي وان بالوكالة، السبب الكامن وراء عدم العقاب هذا، فأجابني بالحرف الواحد: «سيعلو الصراخ في أوروبا، في حال قمنا بمعاقبتهم». قلتُ له بأنّ القوى الأوروبيّة، والحكومة الفرنسيّة على وجه الخصوص، لن يعترضوا على معاقبة المجرمين الذين يثبت قيامهم بارتكاب الجرائم. لقد كنتُ دائمًا على قناعة بأنّ الحكومة العثمانيّة، ولجنة «الاتّحاد والترقي» لم تُبق على هؤلاء الثوّار إلاّ بهدف الإبقاء على ذريعة لإبادة الأمّة الأرمنيّة، في يوم من الأيّام. ويبدو لي أنّ التهم الموجهة الآن ضدّ هذه الأمّة المسكينة تبرّر هذه التكهنات بالكامل.

2- يجب إبعاد الأرمن، المشتبه بتواطئهم مع العدو، عن مناطق الحرب. تُبيّن الحقائق الوارد ذكرها في الجزء الأوّل من هذا التقرير زيف هذه الذريعة الكاذبة بامتياز. لو كانت هناك فعلاً خشية من خيانة الأرمن، لماذا لم يتمّ الاكتفاء بإبعاد الرجال القادرين على حمل السلاح؟ لماذا نُفي النساء والأطفال؟ لماذا لم يتمّ توفير سكّان الولايات الواقعة في وسط الإمبراطوريّة، في المناطق البعيدة جدًّا عن مناطق الحرب، في أورفا وماردين وسْعِرت والجزيرة؟ لماذا عومل الكلدان في هذه المناطق الداخليّة، والسريان، واليعاقبة، معاملة لاإنسانيّة تفوق بفظاعتها معاملة الأرمن؟ يبدو لي أنّه لا لزوم، بعد الآن، لدحض تلك المزاعم.

والآن جاء دور الكلام عن المسؤولين الذين ارتكبوا تلك المجازر.


1- الحكومة العثمانيّة ولجنة «الاتّحاد والترقّي»


قام طلعت باشا بإلقاء خطاب طويل حول الأحداث الأرمنيّة، وذلك أثناء انعقاد الجلسة العامّة للجنة «الاتّحاد والترقّي» في القسطنطينية، منذ حوالي عامين، يتلخّص بالتالي: «لقد اكتفت الحكومة بإعطاء الأوامر بترحيل السكان الأرمن المتواجدين بالقرب من مناطق الحرب، وذلك لأسباب محض عسكريّة. وفي حال وقعت أحداث مؤسفة في بعض المناطق، تزامنت مع أعمال الترحيل هذه، يجب أن تُعزى إلى تدخل عصابات من اللصوص الذين هاجموا القوافل».

إنّ جميع الذين قرأوا هذا الخطاب، وشهدوا على المذابح الوارد ذكرها أعلاه، دُهشوا من وقاحة هذه الكذبة.

هل يعقل أن يكون طلعت باشا، حين كان يتلي مرافعته، ويُصفّق له جميع أعضاء اللجنة، ليس على اطلاع دقيق عن كيفيّة تطبيق أوامره، وعن عدد ضحاياه؟

بعد مرور وقت قصير على المجازر التي حصلت في ولاية ديار بكر، تناولت الصحف التركيّة خبر اجتماع حصل بين الوالي، رشيد بك، يرافقه طلعت باشا، والسلطان محمد رشاد. هل يمكن الاعتقاد بأنّه، في هذا اللقاء الثلاثي، لم يتمّ التطرّق إلى الأحداث الخطيرة التي وقعت في هذه الولاية؟ وعلى أثر هذا الاجتماع مع السلطان، تمّ تعيين رشيد بك والٍ على أنقره. ولم نتفاجأ، بعد بضعة أسابيع، حين وصلتنا الأخبار عن جرائم الدكتور رشيد بك الجديدة: لقد التهمت النيران الأحياء المسيحيّة في مدينة أنقره بالكامل. وقد عرفتُ من بعد، بواسطة شهود عيان، بأنّ رشيد بك عمل شخصيًّا على انتشار الحريق.

أرسلت حكومة طلعت باشا لجان عديدة للتحقيق في المجازر التي حصلت في ولاية ديار بكر، وذلك بعد مرور فترة قصيرة على حصولها. أقام ثلاثة أو أربعة مفوضين في ماردين، أثناء وجودي في هذه المدينة. وبالفعل، قاموا بالتحقيق حول ممتلكات المسيحيين المفقودين، وكيفيّة توزيعها، قبل أيّ شيء آخر. هل أهملوا، في تقاريرهم، ذكر ما حلّ بأصحاب تلك الممتلكات؟ هل بَرّأ هؤلاء المفوضون ساحة بدر الدين بك، متصرّف ماردين؟ والحقيقة هي أنّ بدر الدين بك، هذه الشخصيّة المشؤومة، الذي لم يكن سوى كاتب بسيط قبل تعيينه في منصب ماردين، تمّ تكريمه في حينه، وترفيعه إلى منصب غير اعتيادي، إذ عُيّن مدبرًا لولاية ديار بكر، خلفًا لرشيد بك.

وبعد أن اطلع طلعت باشا وحكومته على «الأحداث المؤسفة» التي وقعت خلال هذه «الترحيلات»، هل قاموا بمعاقبة المرتكبين؟ ليس عندي علم بأيّ عقاب حصل بحقّهم، سوى ما عرفته بأنّ متصرّف ماردين، بعد هذه الأحداث، بعث إلى الزعماء الأكراد الذين قادوا قبائلهم في عمليّات السلب، يطلب منهم إعادة الأوامر الخطّيّة التي أُعطيت لهم لاطلاعهم على الزمان والمكان المناسبين لملاقاة القوافل. رفض هؤلاء اللصوص الذين لم يفتقروا إلى الحكمة، من إعادة تلك الأوراق، آخذين بالحسبان إمكانيّة أن تكون لهم ذات قيمة، في يوم من الأيّام.

لو بقيت لدينا شكوك حول ذنب حكومة طلعت باشا، من السهل الاستعلام عنه، في محكمة الأمم المتحضرة الكبيرة التي لن تتردّد بالاهتمام بهذه الجرائم ضدّ الإنسانية، وطرح السؤال التالي على الولاة الذين ارتكبوها، والموظفين بجميع درجاتهم: هل تصرّفتم من تلقاء ذاتكم؟ يمكننا الاستعلام، بشكل خاصّ، من الدكتور رشيد بك، إذا قام بإقالة متصرّف ماردين، حلمي بك، من دون العودة إلى القسطنطينيّة، بعد أن كان المتصرّف قد رفض، في الإطار الذي ذكرته، القيام بإلقاء القبض على أعيان ماردين المسيحيين.


2- الألمان


إذا أردنا معرفة دور الحكومة الألمانيّة في الفظائع التي ارتكبها حلفاءها الأتراك، بشكل دقيق، أتجاسر وأقترح الطريقة نفسها: أن يُطرح على طلعت باشا وأعضاء حكومته الفارّين حاليًّا، في اليوم الذي يمثلون فيه أمام قضاة المحكمة الرسميّة، السؤال التالي: «هل قمتم بإصدار المرسوم القاضي بإبادة المسيحيين في إمبراطوريتكم، قبل التأكّد من أنّ الحكومة الألمانيّة لن تكسر تحالفها معكم عند علمها بالمجزرة الرهيبة التي تخطّطون لها؟»

في انتظار الجواب، يمكنني القول إنّه، أينما حلّيتُ في رحلاتي الطويلة إبّان الحرب، بقيادة شرطيين أتراك، أجول في بلاد ما بين النهرين، والأناضول، فضلاً عن إقامتي في ماردين، وكونيا والقسطنطينية، كنتُ أسمع المسيحيين كلّهم، وكذلك المسلمين والشخصيات التركيّة التي تملك معلومات موثوقة، يؤكّدون أنّ الحكومة الألمانية كانت، على الأقلّ، متواطئة في عمليات القتل هذه. ودعمًا لهذا القول، يقدّمون الحجج نفسها، في كلّ مكان كنتُ فيه، وهي التالية:

- لو لم تكن الحكومة الألمانيّة على علم بالمشروع الفظيع، قبل حصول المجازر، لماذا استمرّت بمساندة مرتكبيها، حتّى نهاية الحرب؟

هل يمكن أن يكون قناصل ألمانيا، والضباط والمسؤولين الألمان القائمين بصورة دائمة في جميع الولايات التركيّة، لم يبلّغوا أبدًا حكومتهم عن الفظائع التي كانوا شهودًا لها؟ إنّ الحكومة الألمانيّة كانت على علم تامّ بالأمر، وهذا هو، على الأرجح، السبب الذي كان وراء خشيتها من المنشورات الصحفيّة.

بعد اطلاعه على مجريات المجازر من شهود عيان، بما فيه الكفاية، وتمكّنه من النجاة منها، اضطرّ أحد الأساتذة في المعهد الألماني في حلب، إلى العودة إلى بلاده. وقبل مغادرته، صرّح أمام اصدقائه الذين نقلوا الخبر إليّ، أنّه لن يتوانى عن إعلام الصحافة والرأي العام الألماني بالأهوال التي كُشفت أمامه. وقد علمنا فيما بعد أنّه تعرّض للتهديد وسوقه إلى المحكمة العسكريّة في حال تجرّأ وأقدم على نشر أيّ شيء عن المجازر.

هل كان طلعت باشا والمتواطئين معه يجرؤون على مواصلة عمل الإبادة لو تدخلت الحكومة الألمانيّة، ووضعت حدًّا للمذبحة الرهيبة؟ بقول الحكومة الألمانيّة إنّها لا تتدخل في شؤون تركيا الداخلية، كانت تعترف بتواطوئها معها.

- لم يكن باستطاعة الأتراك التخطيط لمشروع بهذا الحجم بشكل مستقلّ، وبطريقة لا تخلو من الكفاءة العلميّة والمنهجيّة.

إبّان المجازر السابقة، ولا سيما في العام 1895 و 1896، لم يفكّر أحد بسوق الأرمن وقتلهم خارج المدن، وعلى الطرقات المعزولة، وجعلهم يموتون من الجوع في الصحاري. ولم يكلّف أحد نفسه بفصل قوافل الرجال عن تلك العائدة إلى النساء. ولم يتمّ دعوة الأكراد للخروج من قراهم، والتربّص بالمواشي البشريّة التي سُلّمت للذبح، في أماكن بعيدة عن الأنظار. في الماضي، كانت تتمّ المجازر على الطريقة التركيّة، في شوارع المدن، وفي البيوت، وفي الساحات العامّة. ولو استُعملت الطريقة القديمة الآن، في عدد قليل من المناطق، كما في سْعِرت، كان ذلك بسبب تعصّب السكان المسلمين، في بعض الأحيان، الذي طغى على الخطّة الشاملة التي رسمها منظّمو المذابح. لذلك، كان من الواضح عند أولئك الذين يعرفون تراخي السلطة العثمانيّة، أن ينسبوا إلى ألمانيا، المتّحدة بشكل وثيق مع تركيا، تلك الخطط العلميّة المعدّة بصبر لحجب أهوال المأساة الدمويّة الحاصلة في تركيا عن عيون الشعوب المتحضرة، ومنع صرخات الضحايا من الوصول إليها.

ألم يكن من الطبيعي أيضًا المقاربة بين قوافل الأرمن من جهة، والترحيلات المنهجيّة لسكان المدن في بلجيكا وشمال فرنسا التي كانت تتحدّث عنها الصحف التركيّة، بطريقة غير موفقة، من جهة أخرى. تُضاف إليها الدعاية الألمانيّة المنتشرة بشكل كثيف في جميع المدن التركيّة. وقد ساهمت هذه المقاربة بتنوير أكثر العقول سذاجة. لذلك، لم تكن الأمهات والأرامل والأيتام هناك يتلفظون باسم «ألمانيا» من دون أن يُضيفوا إليه لقب «البربريّة»!

- بصرف النظر عن هذه الاعتبارات العامّة، هناك وقائع محدّدة يُحكى عنها في كلّ مكان، يبدو لي من غير الضروري ذكرها في هذا التقرير الذي يجب أن يكون مقتضبًا. لن يتوان شهود آخرين من التعريف بها، فهي لا تُعدّ ولا تُحصى.

يبقى عليّ الإشارة إلى الأسباب الحقيقيّة لهذه المجازر، بالاستناد إلى ملاحظاتي الشخصيّة:


1- عداء العثمانيين المزمن تجاه العنصر المسيحي


أستطيع أن أؤكّد أنّه، أثناء إقامتي في تركيا مدّة أربعة وثلاثين عامًا، كان المسيحيّون يعانون من المضايقات والاضطهادات من قبل الحكومة العثمانيّة، أقلّه في المناطق التي عشتُ فيها. لم يعلم الأوروبيّون سوى بالاضطهادات الكبيرة التي، في بعض الأحيان، أدّت إلى هدر الدم في مناطق بأكملها من تركيا، مثل مجازر سَمسون في العام 1894، والإعدامات الجماعيّة التي أمر بها عبد الحميد، في العامين 1895 و 1896، في معظم الولايات التي يتواجد فيها الأرمن، في المناطق الداخليّة، مثل سْعِرت والجزيرة، حيث قُضي تمامًا على السكان المسيحيين، في القرى العديدة، في فترة الثلاثين عامًا هذه، وحلّ المسلمون مكانهم. وكانت الوسائل المستعملة تدريجيًّا للوصول إلى هذه النتيجة هي نفسها دائمًا: البدء باغتيال أعيان القرى والوجهاء المسيحيين أصحاب النفوذ؛ تمادي السلطات المحليّة بأعمال العنف والتنكيل بحقّ القرويين المسيحيين؛ نهب منظّم ودوري من قبل الأكراد، بتواطؤ واضح من السلطات؛ بقاء هذه التجاوزات كلّها من دون أيّ عقاب. ثمّ تبدأ عمليّة إزالة العنصر المسيحي أو إضعافه، ببطء وحذر، كي لا ينتبه الأوروبيّون إلى هذا الأمر.


2- إزدهار الأمم المسيحيّة المتزايد وتفوقها على باقي الأمم


أكّدت لي بعض الشخصيّات التي لديها معلومات موثوقة عن تصرّفات لجنة «الاتّحاد والترقّي» التي كانت تقوم بها بشكل سرّي أو بآخر، أنّه، ما أن استلم الأتراك الفتيان الحكم، حتّى أرسلوا لجنة تحقيق إلى ولايات الإمبراطورية المختلفة، مهمتها جمع المعلومات، بالأرقام والوثائق، عن أوضاع الجماعات المسيحيّة المختلفة، بشكل عامّ، بما له علاقة بالتجارة والصناعة والتعليم وغيرها من الأمور.

وجاء في خلاصة التقارير التي أعدّها المفوّضون بأنّ الجماعات المسيحيّة، بخاصّة الأرمن، سوف يصبحون الأكثرية السائدة في الإمبراطوريّة، ما لم يتمّ اتخاذ الخطوات الفورية للحدّ من تقدّمها. لذلك، قّررت لجنة «الاتّحاد والترقّي» اعتماد الطريقة الوحيدة لمعالجة هذا النقص في العنصر المسلم، وهي القيام بالقضاء على السكان المسيحيين، بواسطة مجزرة عامّة.

وفي انتظار الفرصة المواتية لتنفيذ هذا الإجراء الجذري، يجب إعاقة النشاط الحضاري الذي كان يقوم به الأشخاص الأجانب ومؤسّساتهم، والذي كان يعود بالإفادة إلى السكان المسيحيين بشكل خاصّ، وهم قابلون للعلم والتقدّم أكثر من المسلمين. يجب محاربة المؤسّسات الفرنسيّة على وجه التحديد، وإضعاف نفوذ هذه الأمّة التي يرى فيها المسيحيّون حامية لهم. لذلك، اتُّخذت الخطوات لإلغاء نظام الامتيازات القائم، وبدأت التحرّشات والإعاقات بحقّ البعثات الفرنسيّة منذ إقامة نظام تركيا الفتاة.

ينبغي القيام بدراسة طويلة لمعرفة الدور الذي قامت به ألمانيا في هذه السياسة المناهضة للفرنسيين والمسيحيين، والتي أدّت إلى مجازر العام 1915. إنّ الإجراءات العنيفة والوحشيّة ضدّ المرَسلين والمؤسّسات الفرنسيّة، منذ بدء الحرب، قد أظهرت، بطريقة لا لبس فيها، النيّة المبيتة لتدمير تلك الإرساليّات، والاستعاضة عنها بإرساليّات ألمانيّة.

إنّ هذه الأفكار المطروحة ليست بعيدة عن الموضوع، بل تقودني للإشارة إلى سبب آخر للمجازر، وهو تعلّق المسيحيين الشرقيين بفرنسا، أكثر من أي وقت مضى، وإخلاصهم لها.

لم أنسَ ما قاله ضابط كبير في الجيش الألماني، مشيرًا بقبضته إلى جبال لبنان حيث منازل المسيحيين المزيّنة بالأعلام والرايات، بمناسبة وجود الأسطول الفرنسيّ في ميناء بيروت: «لو تيسّر لي أن أحكم هذا البلد لمدّة ثمانية أيّام فقط، لكنتُ جعلتُ الموارنة يدفعون غاليًا ثمن هذه المظاهر المعبّرة عن صداقتهم لفرنسا». يمكنني تسمية الشخص الذي قيل له هذا الكلام ونقله إليّ. لم يقم هذا الضابط وحكومته بالسيطرة على لبنان بشكل كامل، لكنّ شركاؤهم وحلفاؤهم، أمثال جمال باشا وعزمي بك، تكفلوا بالأمر، وجعلوا الموارنة يدفعون الثمن بطريقة وحشيّة، إذ نصبوا لهم المشانق، وقاموا بتجويع منهجي لأمّتهم.

تُبيّن كلمة هذا الضابط القاسية مدى الشعور السائد تمامًا بين أبناء بلده تجاه المسيحيين في تركيا، وتجاه فرنسا، في الوقت عينه. باستطاعتي كتابة مجلّد كامل عن الأمور التي رأيتها أو سمعتُ عنها أو قرأتها، قبل الحرب وأثناءها، عن هذا الموضوع المحزن. في الآونة الأخيرة ، انتشرت في تركيا منشورات بغيضة تُبيّن، بطريقة وقحة، تلك الكراهية المشتركة التي يكنّها الألمان تجاه فرنسا ومسيحيي الإمبراطورية العثمانيّة.

أتوقّف عند هذا الحدّ، وأؤكّد أنّ المسيحيين في تركيا تعرّضوا للتعذيب والقتل كرهًا بفرنسا. وفرنسا لن تنس لهم ذلك.


الخلاصة

إنّ الخلاصة الوحيدة التي أسمح لنفسي بإضافتها على هذه المذكرة الطويلة هي أن لا تبقى تلك الجرائم من دون عقاب. إنّ شرف الأمم المتحضرة يتطلّب منها إرضاء الضمير الشعبي بشكل كامل، وضمان العدالة للناجين من هذه المذبحة الرهيبة.

ومن الضروري إرسال لجان تحقيق إلى جميع ولايات الإمبراطوريّة العثمانيّة، لاستجواب الشهود العيان، ومعرفة أماكن الآبار والصهاريج والأنفاق حيث تكدّست هياكل الضحايا العظميّة، وتسليمهم منفّذي هذه الجرائم، وذكر أسمائهم، وتبيان مسؤوليتهم. يجب انتزاع النساء والصبايا المسيحيّات من أيدي خاطفيهم وجلاّديهم. ومن أجل ضمان أمن المسيحيين في تركيا، من الضروري فرض العقوبة المناسبة من قبل ممثلي الدول المتحضرة، هذه المرّة، لتكون عبرة للآخرين، ولوضع حدّ نهائي للاضطهادات البربريّة التي كان مسيحيّو الإمبراطوريّة العثمانيّة ضحاياها، في كثير من الأحيان.

أرفع هذا التقرير إلى تقديركم الغالي، وتفضّل، حضرة الوزير، بقبول مشاعر الاحترام العميق، وأنا أتشرّف بأن أكون خادمكم المتواضع، رئيس إرساليّة الآباء الدومينيكيين في الموصل.

باريس، في 15 كانون الثاني 1919

1 اسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 463-466 ؛
جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ترجمة الأب عمانوئيل الريّس، كنيسة القديس ميخائيل للكلدان في ألكاجو (كاليفورنيا)، 2006، ص. 303-306 ؛
Yves Ternon, Mardin 1915, Anatomie pathologique d’une destruction, Annales du Centre d’Histoire arménienne contemporaine, Tome IV, 2002, p. 270.

2جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ص. 305.

3 نقله إلى العربيّة عن النصّ الفرنسي الأصلي: ساميه خليفه بو عقل وفارس ملكي.

4 ملاحظة الناشر: هو الأب جبرائيل كتمرجي الأرمني الكاثوليكي الذي سقط إلى جانب الأب جوزف رباني السرياني الكاثوليكي، كما ورد في روايات أُخرى.

5 م. ن. : إنّها حنّة، زوجة مال الله، شقيق المطران اغناطيوس مالويان (راجع اسحق أرمله، ص. 279).

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل التالي

الأب جاك ريتوريه

الأب جاك ريتوريه

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013