إستشهاده
  |  
روايات الأرمن
Cross

المطران جان نزليان

 

مطران طرابزون جان نازليان

 

مذكرات المطران جان نازليان، أسقف طرابزون، عن الأحداث السياسيّة والدينيّة في الشرق الأدنى، من العام 1914 حتّى العام 1928

 

تمّ سيامة جان نازليان (أرضرّوم، آذار 1875 – بعبدا، لبنان، 15 أيلول 1957) أسقفًا على طرابزون أثناء السينودس القومي المنعقد في روما، العام 1911، الذي دعا إليه بطريرك الكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، المنتخب حديثًا، بوغوص بطرس الثالث عشر ترزيان (1910-1931) لتنظيم الكنيسة.

وتحت ذريعة سيامته في إيطاليا، الدولة المعادية لتركيا بسبب الحرب الدائرة بينهما على الشواطئ الليبيّة، مارست الحكومة التركيّة الخاضعة لتوجيهات الأتراك الفتيان عراقيل وضغوطًا كبيرة عليه لمنعه من استلام مركزه، والقيام برسالته.

صمد المطران نازليان أمام التهديدات، وأنقذته العناية الإلهيّة من المجازر التي حصلت في طرابزون، في تموز 1914، إذ كان في فرنسا يُشارك في المؤتمر القرباني الدولي المنعقد في مدينة لورد.

ما أن انتهت الحرب العالميّة الأولى، حتّى تمّ تكليفه القيام بجولة على الأبرشيّات الأرمنيّة في تركيا، بمرافقة لجنة من الخبراء، للاطلاع على أوضاعها، وجمع المعلومات عن المجازر التي تعرّض لها الأرمن، بخاصّة الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات.

تمكّن المطران نازليان من جمع معلومات كثيرة، مستندًا إلى أقوال الناجين من المجازر، والشهود العيان، من بينهم الرهبان الدومينيكيين الثلاثة اللاجئين إلى مطرانيّة السريان الكاثوليك في ماردين، والمطران اندريه أحمراني (أحمرانيان) الأرمني المارديني، وعضو رهبانيّة بزمّار البطريركيّة الذي فقد أحد أقربائه، الأب أنطون أحمراني، في قافلة الحادي عشر من حزيران 1915، مع الأب ليونار ملكي. وكان الأب أنطون أوّل الذين قُتلوا على يد الجنود الأتراك.

في العام 1951، بمناسبة الذكرى المئوية الخامسة عشرة لاستشهاد القدّيس ڤارتان ورفاقه، نشر المطران نازليان حصيلة لقاءاته، باللغة الفرنسيّة، في مجلّدين اثنين، بلغ عدد صفحاتهما 1637، تحت عنوان: «مذكرات المطران جان نازليان، أسقف طرابزون، عن الأحداث السياسيّة والدينيّة في الشرق الأدنى، من العام 1914 حتّى العام 1928.» أعادت بطريركيّة الأرمن الكاثوليك في بيروت نشر الكتاب في العام 2008، مع مقدّمة للبطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر.
يُشار إلى أنّ المطران نازليان قام باستئجار منزل الدكتور جوزف أنطون لبكي في بعبدات لتمضية فصل الصيف من العام 1955 فيه، برفقة أخته ماري، وشارك في الذبيحة الإلهيّة التي أُقيمت بمناسبة رفع تمثال سيّدة الرجاء في بعبدات، في ١٥ آب ١٩٥٥.

لكتاب المطران نازليان قيمة كبيرة نسبة إلى المعلومات الموثوقة التي يوردها عن المجازر بحقّ الأرمن في تركيا. ننقل فيما يلي بعض المقاطع المعرّبة التي تُلقي الضوء على استشهاد الأب ليونار ورفاقه:

 

أ- نظرة عامّة إلى مذابح الأرمن، من الناحية السياسيّة والدينيّة (ص 1-5)

إنّ إبادة الأرمن في الإمبراطورية العثمانيّة قد تمّ التخطيط لها وتنفيذها على يد الأتراك الفتيان، بموافقة حكومة الباب العالي في استنبول، ومشاركة المواطنين المسلمين، يشجّعهم عليها ويدعمهم فيها السلطات المدنيّة والعسكريّة القائمة في تلك الفترة، بإشراف عسكر المواكبة المكلّف إدارة عمليّات الترحيل.

ونظرًا إلى عقليتهم، أراد الأتراك تحقيق أهداف سياسيّة من خلال استنهاض الغرائز الدينيّة، فوضعوا مخطّط الإبادة، وقاموا بتنفيذه للقضاء التامّ على هذه الطائفة المسيحيّة القويّة والمتأصلة في البلد منذ آلاف السنين.

فبعد استلام الأتراك الفتيان الحكم، أصبح همّهم الأساسي دمج الطوائف المختلفة، وضمّها إلى العرق التركي. شكّل الأرمن عائقًا أمام هذه العمليّة، لأنّهم كانوا يكوّنون المجموعة الأكبر، عدديًّا وإتنيًّا، والأقدر اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فتمّ استهدافهم للقضاء عليهم.

لكنّ هذا المخطط الذي يشمل ليس فقط ضمّهم إلى العرق التركي بل أيضًا أسلمتهم، لاقى اعتراضًا قويًّا، بخاصّة عند الأرمن الذين استطاعوا المحافظة على هويتهم القوميّة والدينيّة، بمواجهة الأعراق التركيّة، وعلى الرغم من خضوعهم للمحتلّ، وذلك بسبب تعلّقهم بوطنهم الأمّ، وعاداتهم الوطنيّة والاجتماعيّة، فتمكّنوا من تنظيم أنفسهم جماعات وكنائس، وحصلوا على امتيازات وصلاحيّات مُنحت لهم بواسطة الفرمانات الإمبراطوريّة، اعترفت بها الحكومة التركيّة بموجب التزامات رسميّة سُطّرت في قوانين دوليّة.

وبما أنّ الأرمن كانوا أصحاب مواهب ومهارات، ولديهم طاقات عالية، حقّقوا تقدّمًا ملحوظًا في عالم الثقافة والتجارة والصناعة والزراعة، ما أثار غيرة مواطنيهم الأتراك وحسدهم. وبقدر ما كان الأرمن يرتقون بمستواهم المعيشي، كان الأتراك يزدادون حقدًا تجاههم، فاتّسعت الفجوة بينهم.

علاوة على ذلك، نشأت الإمبراطوريّة التركيّة على استغلال الغالبية العظمى من غير المسلمين، من قبل الفاتحين الأتراك الذين يشكّلون أقلّية مسلمة. وإنّ السلاطين الذين أسّسوا هذه الإمبراطورية، وأصبحوا بالتالي خلفاء المسلمين في العالم كلّه، مارسوا سلطة مستبدّة باسم الإسلام، قوامها التمييز بين المواطنين المسلمين وغير المسلمين، وعدم المساواة فيما بينهم، وهذا السلوك هو من صلب شخصيّتهم.

بالإضافة إلى المبدأين الأساسيين السابقين الذكر، أي أسلمة المواطنين، والاستبداد في الحكم، أضاف الأتراك الفتيان مبدءًا ثالثًا تَمثّل بالقوميّة التركيّة. وكان على الأرمن مقاومة الاتجاه التصاعدي لتلك العوامل الثلاثة مجتمعة، وذلك للمحافظة على شخصيّتهم المعنويّة وضميرهم الوطني.

لم تتردّد القوى الغربيّة في الاستفادة من هذه الأوضاع للتدخل في الشؤون التركيّة الداخليّة بموجب المعاهدات الهادفة إلى حماية المسيحيين بشكل عامّ، والحفاظ على حريّة الضمير والعبادة، وفقًا لتقاليد كلّ طائفة، بخاصّة الطائفة الكاثوليكيّة.

شكّل الأرمن خطرًا مزدوجًا بالنسبة إلى القادة الأتراك: إنّ التقدّم الباهر الذي أحرزوه شكّل انتقاصًا معنويًّا للهيمنة التركيّة من شأنه أن يقلب الأدوار، ويصير التركي المهيمن مثل المواطن العادي. وعلاوة على ذلك، استفادت السياسة الأوروبيّة من هذا الوضع، واستغلّت العنصر الأرمني للحصول على تنازلات مُربحة من تركيا، أو أراض تؤخذ منها. وعلى حدّ قول أحد السياسيين التابعين لحزب تركيا الفتاة: “إنّ المصالح الدينيّة والمصالح الماديّة هي المحرّكة لتلك السياسة الأوروبيّة التي لم تخضع يومًا للقيم الأخلاقيّة، بل لدوافع مركنتيليّة، وأطماع بالفتوحات تتستّر أحيانًا بمظاهر تقويّة ونزيهة.”  (الإفلاس الأخلاقي للسياسة الغربية في الشرق، أحمد رضا، 1922، مكتبة بيكار، باريس).

إزاء هذا الخطر المزدوج، قرّر الشعب التركي وحكومته القيام بعمل مضاد يؤجّجه التعصب الديني، وغريزة القوّة الغاشمة، أقاموهما كحقّ مكتسب للدين بقوّة السيف، والحكم المطلق للطاغية، وبالتالي صار المسيحي، بنظر التركي، ليس فقط عبدًا منذ ولادته، بل شيئًا مستباحًا يحقّ له قتله.

بعد حرب البلقان، وُلدت عقيدة سياسيّة جديدة في تركيا قوامها البانطورانية التي أدخلت السمّ إلى عقول الشباب التركي الذي لم يحاول التأكّد من إمكانية تحقيقها. تقول البانطورانيّة، عن غير حقّ، بأنّ العرق التركي يمتدّ من تركيا إلى الأذربيجان الروسيّة والفارسيّة، ومن هناك إلى تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان ومنغوليا… ومن القسطنطينيّة إلى الحدود اليابانيّة، وبالتالي، تدعو إلى قيام دولة واحدة طورانية تضمّ جميع تلك البلدان.

نشأت أدبيات جديدة تشعل الخيال التركي حتّى الذروة لتحقيق هذا الحلم الكبير الخارق: إمبراطوريّة ذات حدود شاسعة. ولم يبق أمام التنفيذ سوى عائق العرق الأرمني المسيطر على هضاب أرضرّوم وكارس ومناطق بدليس ووان، مشكّلاً سدًّا منيعًا أمام التمدّد المطلوب. والحل؟… إنّه سهل المنال بالنسبة للعقل التركي البدائي: القضاء على الأرمن بحدّ السيف.

فَـتـن الأتراك بتلك الفكرة المتسلّطة، لدرجة أنّهم بدأوا يلومون السلاطين الخلفاء السابقين الذين أنشأوا الإمبراطوريّة العثمانيّة لأنّهم لم يطبّقوا، إلاّ جزئيًّا، هذا الحلّ الكامل والمتكامل. والآن، بموازاة الحرب العالميّة الأولى التي اشتركت فيها جميع الدول الكبرى لمحاربة الأتراك، وهي الموقّعة على معاهدات مع الدولة التركيّة لحماية المسيحيين، أصبحت الفرصة سانحة، وردّة الفعل غير مجدية، للقضاء بشكل كامل، مرّة واحدة وإلى الأبد، على هذا الخطر السابق ذكره. لقد جاء الزمن المناسب للأتراك لإبادة العرق الأرمني الرهيب.

ب- القواعد التي تسلّح بها الأتراك الفتيان لدعم مخططهم، وطرق الإبادة 

من حقّ رينيه بينون أن يُعَنون كتابه: “القضاء على الأرمن: طريقة ألمانيّة وتنفيذ تركي” (المكتبة الأكاديمية، باريس، 1916). ونحن نعتقد أنّه من الأفضل تعريف كلمة “القضاء” على الشكل التالي: “طريقة طائفيّة متعصّبة وتنفيذ الأتراك الفتيان”.

في الواقع، لم يَخْفِ القائمون على هذا الفعل الطبيعة الطائفيّة لهذا العمل الإجرامي، وزادوها سوءًا بنشر بعض قواعدها في الصحف، بطريقة لا تخلو من الوقاحة، محاولين رسم عقيدة تبرّر اعتداءهم على حقّ الإنسان في الحياة. إنّ هذه القواعد نفسها اعتُمدت من قبل الأديان التي انتشرت بحدّ السيف، وتمّ عرضها بطريقة علميّة خاطئة في صحيفة “الهلال الأحمر” الناطقة الرسميّة بلسان لجنة “الاتحاد والترقي”، باللغة الفرنسيّة، ننقل بعضًا منها فيما يلي:

1- وفقًا لقوانين الطبيعة، تشكّل الأعراق الدُنيا قوتًا للأعراق الراقية. 

2- تشكّل الحرب نظام القوّة الموضوع بتصرّف الأعراق المهيمنة للدفاع عن أنفسها ضدّ الضعفاء الذين وجب عليهم تحمّل العواقب، مهما كانت كارثيّة بالنسبة إليهم.

3- إنّ القتل هو غضب الأشراف بحقّ الأعراق الدنيئة التي لديها برنامج عمل خطير وعدائي.

4- ما أن يُتّخذ قرار البدء في المجازر حتّى وجب متابعته حتّى النهاية، من دون الخضوع إلى تأثير أحد، ولا التوقف عند أي سبب عاطفي… وهذا ليس عمل وحشي، بل يعبّر عن قوّة الشخصيّة.

5- إنّ قتل الشعوب، بغضّ النظر عن العمر والجنس، هو ضرورة عسكريّة.

6- إنّ قتل الأطفال التابعين لعرق معاد هو تدبير وقائي يفرضه الذَود عن الوطن.

7- إنّ هؤلاء الأطفال، ولو كانوا في رحم أمّهاتهم، يشكّلون ذريّة منبوذة، وهم غير جديرين بالحياة. (بالاستناد إلى تلك القاعدة، تمّ بقر بطون النساء الأرمنيّات الحاملات من دون رحمة، إبّان المجازر، وسحق الأطفال على الصخور والأشجار. أُجبر العديد من النساء على السير لأيّام وأيّام، وكنّ لا يزلن في بداية حملهنّ ليصيرنّ أمّهات، بل وأكثر من ذلك، فيما هنّ يُجرجرن خطاهنّ، تمّ إنهاء حياتهنّ تحت ضربات السياط المهلكة).

8- يعتمد وجود الإمبراطوريّة واستمراريتها على قوّة حزب تركيا الفتاة، وقمع جميع الأفكار المناهضة (مؤتمر الأتراك الفتيان في تيسالونيكي، العام 1911). وفي هذا المؤتمر، تمّ الاتفاق على خطة عمل سلبيّة تحتوي على قرارات الإبادة للمسيحيين، بشكل عامّ، في أوّل فرصة مناسبة.

9- بما أنّ «أوروبا الرسميّة لم تتحرّر كفاية من المفاهيم اللاهوتية والميتافيزيقية، وبما أنّ الأحكام المسبقة والتعصب الديني باقية فيها، ويُعبَّر عنها في كلّ حين»، فإنّ المسلمين، هم أيضًا، لهم الحقّ في الوقوف كتلة واحدة، وشنّ حرب مقدّسة ضدّ الكفّار، القريبين والبعيدين، مستعينين بتعاليم القرآن. وهكذا، تمّ إعلان الجهاد، في 15 تشرين الثاني 1914، لإثارة المسلمين المنتشرين في جميع دول العالم ضدّ المسيحيّة. لكنّ سخريّة القدر أرادت بأنّ الذين حَرَّضوا على تمثيليّة الحرب المقدّسة تلك تحالفوا مع قوى مسيحيّة أخرى صاحبة مفاهيم لاهوتيّة وميتافيزيقيّة.

جاء في القرآن ما يلي: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً » (سورة التوبة 123)؛ « وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ » (سورة النساء 104)؛ « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ » (سورة محمد 34). بالاستناد إلى تلك الآيات، أُعلنت فتوى الجهاد على الشكل التالي:

« حين يتّحد أعداء كثيرون ضدّ الإسلام، وحين تُنهب الدول الإسلاميّة، ويُضطهد السكان المسلمون ويُسجنون، ونظرًا لتلك الظروف، تُعلن خلافة المسلمين الجهاد، وفقًا لأحكام القرآن المقدّسة.

أليست الحرب من واجب المسلمين كلّهم، شباب وشيوخ، مشاة وخيّالة، تدفعهم الغيرة على إيمانهم لشنّ الحرب؟ الجواب: نعم.

أليس من واجب المواطنين المسلمين في روسيا وفرنسا وإنكلترا والدول التي تساندها الجهاد ضدّ الدولة التابعين لها؟ الجواب: نعم.»

لم تنتشر تلك التأكيدات خارج حدود البلدان المحتلّة من الجيوش التركيّة وحلفائها، ولم يكن لها صدى يُذكر إلاّ في داخل تركيا، بخاصّة أنّ الأتراك الفتيان كانوا يقولون: «إنّ مشاعر الشعوب، بما له علاقة بأمورهم الداخليّة الخاصّة، لهم وحدهم الحقّ بالمضي فيها قدمًا». أمّا المسلمون المتواجدون في الدول العدوّة الأخرى، فقد قاتلوا في الجيوش التابعة لكلّ دولة منها ضدّ قوّات الأتراك الفتيان، بعد أن عدّوهم من المرتدّين عن الإسلام، وقاتلوا بكلّ تفان، مثلهم مثل الجنود المسيحيين. وبالمقابل، رَفَع إعلان الجهاد وتيرة بغض الأتراك المسلمين لمواطنيهم المسيحيين، وبخاصّة الأرمن، إلى حدّه الأقصى. لذلك، فيما كان مخطّط إبادة هذا العرق المجرّد من السلاح له دوافع سياسيّة، في البداية، فإنّ تنفيذه حرّكته الدوافع الدينيّة البحتة التي ذكرها إعلان الجهاد.

ومن المفيد أيضًا عرض بعض القواعد الإضافيّة التي اعتمدها الأتراك الفتيان:

10- لم تغيّر ثورة الأتراك الفتيان في نظام العقيدة الدينيّة والفلسفيّة المعتمدة لرسم سياسة السلاطين الخلفاء، لأنّ أبناء الثورة العلمانيّة والمعادية للدين هؤلاء، حافظوا على قسم من إيمان أجدادهم، إضافة إلى كلّ ما لديهم من كراهيّة ضدّ المسيحيّة، تتلخّص في هذه المبادئ الهمجيّة: «وحده التركي هو إنسان كامل، أمّا باقي الناس فليسوا سوى حثالة الطبيعة. وحده التركي له الحقّ في الحياة وفي الهيمنة، أمّا غير الأتراك فهم محكومون بالفناء أو موضوعون بخدمة الأتراك.»

11- آمن الشعب التركي بالقضاء والقدر، لذلك وصل به الأمر إلى التنصل من مسؤولية المجازر التي نفّذها بكلّ إخلاص، عملاً بالأوامر التي تلقّاها، مبرّرًا عمله بما جاء في القرآن: «الله خلقكم وما تعملون» (سورة الصّافات 96). وبالتالي، فإنّ الأفعال الإجراميّة التي ارتُكبت أثناء المجازر، مثل الاغتصاب والسرقة والسطو، هي أفعال سمح بها الله، وتغاضى عنها، ووافق عليها.

12- لا مكان للشريعة الطبيعيّة ولا حتّى للحقوق الطبيعيّة أمام رأي الخليفة وإرادته، لأنّه هو ظلّ الله على الأرض. يكفي الحصول على موافقته لتبرير أي عمل يقوم به المسلمون، وهو لم يكن سوى أداة غير مسؤولة بين أيدي الحكومة، هو الحَكَم الوحيد، والسيّد المطلق على حياة رعاياه. لذلك، صار كلّ قمع أو اضطهاد أو نهب أو تعذيب بحقّ الأرمن الذين حكمت عليهم الحكومة بالموت مسموح به، ويمرّ من دون عقاب، إذ لا يُعدّ جريمة، بل على العكس، هو فعل يُقدَّر عليه التركي الذي قام به. وعلى هذا الأساس، عندما أُلقي القبض على الدكتور حسن فؤاد، واقتيد أمام محكمة الموصل بتهمة قتل كاهنين كلدانيين من أهل المدينة، أخلى القاضي سبيله حين قال له بأنّه لم يكن يعرف هويّة الضحيتين، واعتبرهما من الأرمن، وهذا الأمر يثبت أنّ قتل الأرمن كان مسموحًا به.

13- حاول الأتراك تبرير هذا الإذن المتعمّد، وزعموا  بوجود ثورة أرمنيّة خنقتها الحكومة في المهد. ومع ذلك، فقد تمّ الإعلان، بكلّ وقاحة، على أنّ المجازر ليست إلاّ لقمع هذا التمرّد… وقام أنور باشا، وزير الحرب والقائد العامّ للجيش، في 26 كانون الثاني 1915، بتهنئة أسقف كونيا الأرمني الغريغوري على ولاء الأرمن، طالبًا منه تبليغ رضاه واعترافه بالجميل إلى الأمّة الأرمنيّة المعروفة بإخلاصها الكامل لحكومة الإمبراطوريّة العثمانيّة. وفي وقت لاحق، قام الجزّارون أنفسهم بالتقاط صور لجثث الأرمن في ديار بكر وملاطية وغيرها من الأماكن، بعد أن لفّوا الرؤوس بالعمائم، كدليل قتل الأتراك على يد الأرمن: هذه هي الثورة، وهذا هو الدليل!

14- إنّ هذه العقيدة التي توصي بالمجازر، والأوامر التنفيذيّة الصادرة لتطبيقها على جميع المسيحيين، نُشرت في كتيّب باللغة العربيّة تمّ توزيعه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، جاء فيه: «إنّ إبادة المسيحيين الحقيرين هي مهمّة مقدّسة وجب القيام بها بالسرّ وبالعلن، وفقًا لأوامر القرآن: أُلقوا القبض عليهم واقتلوهم حيث تجدوهم، إنّنا نعطيكم السلطة المطلقة عليهم.» وبالفعل، يحتوي القرآن على مثل تلك الآيات، لكنّها موجهة ضدّ عبدة الأصنام. يبقى لمن يفسّر هذا الكتاب الذي هو بمنزلة إلهيّة لدى المسلمين، بخاصّة شيخ الإسلام الذي هو المفسّر الأعلى الذي يتمتّع بسلطة خاصّة، أن يكيّف تلك المتطلبات والنصوص مع الأوامر الصادرة بهذا الخصوص عن السلطان مباشرة أو بواسطة حكومته. وبالنسبة لهذا الموضوع، كانت حكومة الأتراك الفتيان تفرض تفسيراتها على السلطان محمد الخامس كي تتناسب مع ما جاء في الكتيّب المذكور.

ج- ذهنيّة الأتراك الفتيان والترتيبات الخاصّة التي اعتُمدت بحقّ الأرمن الكاثوليك أثناء عمليّات الترحيل والمجازر 1914-1918 (ص. 13-17)

اعترض الرأي العام في البلدان المحايدة، وحتّى في البلدان الحليفة، على أعمال الحكومة التركيّة الصارخة، القائمة على الإبادة الكاملة لعرق معروف في الشرق، من دون تمييز بين المذنب والبريء، بين الأطفال والشيوخ، بين الكهنة والنساء، ومن دون مراعاة الفروقات المذهبيّة بين الغريغوريين والكاثوليك والبروتستانت، ولو جاء هذا الاعتراض متأخرًا.


تَدخّل البابا بنيدكتُس الخامس عشر لدى السلطان محمد الخامس، وكشف الدكتور ليبسيوس حقيقة الفظائع التركية اللاإنسانيّة من خلال تقرير موثّق وضعه إثر تحقيق قام به شخصيًّا في تركيا، والمعلومات الدبلوماسيّة السرّيّة في محفوظات وزارة الخارجية في واشنطن لم تبقَ طويلاً. وفيما كان ناحوم أفندي، كبير الحاخامات في القسطنطينيّة، في مهمّة خاصّة في أميركا الجنوبيّة لصالح الحكومة التركيّة، يقوم بالدعاية لصالح تركيا ضدّ الأرمن المتمرّدين، ناشرًا ألف حيلة وحيلة، كان يهوديٌّ آخر، بصفته سفيرًا للولايات المتّحدة في القسطنطينية [هنري مورغنتاو الأب]، وبمزيد من السلطة، يلقي الضوء على الواقع المُريع لهذه الإبادة التي لا مثيل لها.

وأمام هياج الرأي العام العالمي، ظنّ الأتراك الفتيان أنّ باستطاعتهم ذرّ الرماد في عيون الكاثوليك والبروتستانت، بخاصّة الذين هم في الدول المحايدة والحليفة، وإشاعة الخبر عن أوامر صدرت عنهم لصالح الأرمن التابعين لهاتين الطائفتين. صدرت تلك الأوامر بالفعل، لكنّها أتت بعد أن وصلت عمليّات الترحيل والمجازر التي رافقتها إلى نهاية مأسويّة، وكانت مرفقة بتعليمات سرّيّة تقضي بعدم تطبيقها إلاّ في حالات استثنائية يعود الفصل فيها إلى إرادة المنفِّـذين المطلقة.

بتاريخ 17 آب، صدر أمر عن وزير الداخلية يقضي بوجوب بقاء الأرمن البروتستانت في أماكنهم. وفي 19 آب، صدر أمر مضادّ يقضي بترحيل جميع الأرمن، من دون استثناء.

حاول الدكتور مورتمان، المسؤول في السفارة الألمانيّة، القيام باتصالات لإعفاء الأرمن الكاثوليك في أضنه وأنقره من تدابير الترحيل، أو أقلّه المحافظة على المرحَّلين من أنقره في مدينة أسكي شهر، مثل أولئك الذين وصلوا من كونيا. لكنّ طلعت باشا حاول التملّص في جوابه.

في التاسع من أيلول 1915، قام السيّد شْميت، قنصل ألمانيا في أورشليم، باتصالات مع جمال باشا، لصالح المرحَّلين البروتستانت، فأجابه بأنّه لا يمكنه التعامل إلاّ بما يخصّ النقل العسكري فقط، وذلك بناءً على أوامر صريحة من طلعت باشا.

تمكّنت سفارة النمسا الحصول من طلعت باشا على أمر بإعفاء الأرمن الكاثوليك في أبرشيّة سيواس، وأبرقت الأمر إلى رئيس أساقفة المدينة، لكنّ الوالي محمد لم يسلّم البرقيّة إلى صاحبها إلاّ بعد ترحيل الكاثوليك التابعين لأبرشيتنا، والوالي هو مَن أعطى أمر الترحيل، ولم يُبلَّغ رئيس الأساقفة إلاّ بعد اتصال قام به مع الوالي.

ما أن انتشر خبر إعفاء البروتستانت حتّى بادر بعض القساوسة في المدن إلى الاعتراض على الترحيل، لكنّ الحكّام المحليين هدّدوا بالإعدام كلّ من يرفض الخضوع، أو يحاول منع تنفيذ هذا التدبير القاضي بترحيل الجميع. وجاء ذلك خلافًا للمداخلات الأمريكيّة، وللوعود التي حصلوا عليها. إنّ جميع الأساتذة والتلامذة في المعاهد الأمريكيّة في نيقوميديا وآدابازاري وكونيا ومرسيفون وخربوط وغيرها لاقوا حتفهم أثناء الترحيل. ومقابل الوعود المعطاة من الحكومة المركزيّة، جاءت التفسيرات التعسفيّة التي لقيت تجاوبًا من الحكومة نفسها.

سجّل الدكتور ليبسيوس كيفية تطبيق التدابير بقسوة استثنائيّة للتخلّص من الإكليرُس، كي تبقى الرعيّة من دون رعاة.

ولكن، بالنسبة إلى الأتراك الفتيان، كان الأرمن الكاثوليك يشكّلون خطرًا أكبر من غيرهم، لأنّهم كانوا بحماية فرنسا، الدولة العدوّة، وكانوا موضع اهتمام الكاثوليك في البلدان الحليفة لتركيا. إنّ الأرمن الكاثوليك، خلافًا لإقرار الحكومات العثمانيّة المتكرّر القائل باعتبارهم رعايا مخلصين ومنضبطين، شكّلوا، بنظر الأتراك الفتيان، عنصرًا أكثر خطورة من الأرمن الغريغوريين، بسبب الوحدة الطائفيّة مع الغرب الكاثوليكي، وكان باستطاعتهم، كما في الماضي، إحداث تدخّل للقوى الأوروبيّة يكون أكثر ارتكازًا على القانون والواقع، ضدّ برنامج الأتراك الفتيان القائل بأنّ تركيا هي للأتراك فقط، ويحكمها الأتراك لوحدهم، خارج عن أيّة رقابة خارجيّة، وأيّ تدخّل من أوروبا المسيحيّة.

لذلك، صدرت أوامر مشدّدة للتعامل مع الأرمن الكاثوليك بطريقة أكثر صرامة وحدّة لإبادتهم، واستباق التدخلات المحتملة لبطريركيّة الأرمن الكاثوليك في القسطنطينيّة، وتجنّب اعتراضات الوفد الرسولي لدى سفارات النمسا وألمانيا والولايات المتّحدة وغيرها. وبكلمة واحدة: بما أنّ الأرمن الكاثوليك كانوا أكثر انضباطًا وأكثر التفافًا حول بطريركيتهم، وأبرشياتهم أكثر انتشارًا على طول الإمبراطوريّة التركيّة، اعتبرهم الأتراك الفتيان عناصر متآمرة على استقلال تركيا المطلق، من حيث المبدأ والعقيدة، ويستوحون ميولهم الانفصاليّة بحكم أخوّتهم الدينيّة مع معظم المسيحيين الغربيين. والدليل على هذه العقليّة هو ما تمّ تطبيقه للتخلّص من معظم الإكليرُس الأرمني الكاثوليكي، وما كتبه أحمد رضا بك من مبادئ ومقترحات في كتابه المذكور سابقًا، نقتطف منه ما يلي:

1- على الرغم من تحرّرهم الديني، كما يزعمون، فإنّ معظم الغربيين ما زالوا يتبنّون أفكار الصليبيين أسلافهم، ولم تتغيّر الدوافع العميقة الكامنة وراء أفعالهم.

2- لم تستطع الفترة الطويلة الممتدّة على تسعة قرون إزالة مشاعر الكراهيّة هذه التي جمعها الصليبيّون ضدّ الأتراك، من الشعوب المسيحيّة، ولا تغيير السياسة التي يعتمدها رجال الدولة الغربيّون تجاه الشرق.

3- قامت البابويّة بحمل الناس على التعصّب، وذلك من أجل تحقيق حملاتها، فألهبت المشاعر، وأيقظت الآمال من خلال وعود غير معقولة. وتحت قناع الحضارة الحديثة، ما زلنا نجد أفكارًا ومعتقدات من القرون الوسطى.

4- كثيرون هم رجال السياسة في فرنسا الذين ما زالوا يحافظون على بقيّة باقية من إيمان أجدادهم، وبينهم مَن يعتقد ويقول بأنّه الابن الشرعي للثورة، وهو أشرس الناس ضدّ الإكليرُس. هم كاثوليك بحسب التقليد، ومفكّرون أحرار بحسب الطبع، وديمقراطيّون بخطاباتهم، حين يُطلب منهم مراعاة الرأي العامّ. ولكن عندما يتعلّق الأمر بوضع الانسجام بين أقوالهم وأفعالهم، تراهم غير معنيين بالأمر.

5- ما زالت فرنسا وإيطاليا تحتفظان ببنية كاثوليكيّة. هناك ملايين الأشخاص الذين لا يمارسون، لكنّهم يحتفظون بشعور ديني هو أقوى من المعتقد.

6- في القرون الوسطى، لم يكن الأمر صحيحًا إلاّ إذا كان مقبولاً من الكنيسة، وانتقلت تلك الأخطاء والأحكام المسبقة من جيل إلى جيل. فوزارة الخارجيّة الأميركيّة، والخارجيّة الفرنسيّة، والمجلس الدستوري في إيطاليا حلّوا محلّ الكنيسة، والأوهام السياسيّة محلّ الأحكام الدينيّة المسبقة، والموظفون الخاضعون لهم يستمرّون بنشر الأوهام نفسها.

7-  بحسب الأوروبّي الذي يطّلع بواسطة الصحف والكنيسة، إنّ التركي ليس سوى بربريّ ملطّخ دائمًا بدماء ضحاياه… إنّه كائن مؤذ، وسبب مصائب أوروبا كلّها، تغذّيه الكراهية، ولا يوحي إلاّ بالكراهية، والطمأنينة في العالم متوقفة على التخلّص منه.

8- على الغرب أن يُصلح نفسه أوّلاً ليكون أهلاً لتطوير الشرق. لا أستطيع تصوّر أي شيء أكثر عبثيّة، وفي نفس الوقت، أكثر وقاحة، من ادّعاء المسيحيين قيادة الجنس البشري (كلمات بيير لافيت نقلها عنه أحمد رضا). لا تكفي الأفكار اللاهوتيّة لتحقيق وحدة الشعوب، ولا لتقريبهم من بعضهم البعض.

9- في الواقع، لا يحقّ لأي دولة مسيحيّة، بخاصّة من الناحية الأخلاقيّة، فرض القوانين على ضمير المسلمين، وتوجيه أعمالهم.

تكشف تلك الأفكار القليلة، الصادرة عن أحد الأتراك الفتيان الملتزمين، النفسيّة المناوئة للكاثوليكيّة، والمقامة بخاصّة ضدّ الكنيسة والبابويّة، لأنّ أتباعهما يريدون «توسيع مملكتهما والتسلّط على العالم»، وبالتالي، يشكّلون العنصر الأكثر خطورة على تركيا. لذلك، لا ينبغي الاستغراب من سوء معاملة الأرمن الكاثوليك، مثلهم مثل أعضاء اللجان الثوريّة الأرمنيّة.

أحمد رضا هو أحد الأتراك الفتيان الملتزمين المعروف باعتداله. يُشرف على صحيفة «مشفيريت» أو «المراقب»، ومعه مجموعة من الأتراك الفتيان. انتُخب رئيسًا على مجلس النواب الجديد ضدّ إسماعيل كمال، من الحزب الليبرالي، وزعيم المعارضة في لجنة الأتراك الفتيان.

د- حقيقة المجازر والمسؤوليّات (ص 17-35)

في كتابه المعزّز بالوثائق وعنوانه «عصبة الأمم والقوى العظمى أمام القضيّة الأرمنيّة» يكرّس السيّد أندريه ماندلستام، كبير المترجمين السابق في السفارة الروسيّة في القسطنطينيّة، والمدير السابق في وزارة الخارجيّة الروسيّة، فصلاً كاملاً للوثائق الدبلوماسيّة الرئيسيّة العائدة إلى المجازر، نقتطف منه ما يلي:

«إنّ حكومة الأتراك الفتيان استغلّت الحرب العالميّة لإبادة حوالي مليون أرمني في تركيا، أكان بالقتل المباشر، أو بتركهم يموتون من الجوع، أو العطش، أو الأمراض، أو المعاملة السيئة. إبّان فصلَي الربيع والصيف من العام 1915، وبأمر من حكومة الأتراك الفتيان إلى قادة الجيش والسلطات المدنيّة في المحافظات، تمّ القضاء على قسم من الأرمن في الولايات التركيّة الشرقيّة، في أماكن تواجدهم، ورُحِّل القسم الآخر نحو الجنوب، وتمّ القضاء عليهم في الطريق.»

جاء اضطهاد الأرمن والمذابح التي تعرّضوا لها في تلك الفترة (1914-1915) أكثر قسوة من سابقاتها. وهل باستطاعة الأتـراك إلاّ أن يغتنموا تلك الفرصة الملائمة للقضاء على هؤلاء المسيحيين المكروهين. فبعد عمليّات الترحيل والقتل التي جرت في أرمينيا الكبرى والصغرى، جاء دور المجاعة المفتعلة من الأتراك للقضاء على الجنس الأرمني، وصارت المدن والقرى تعجّ بقوافل الأرمن المعدّة للذبح. بلغ عدد الضحايا، من ساحل البحر الأسود حتّى صحاري سوريا وبلاد ما بين النهرين، أكثر من مليون ضحيّة، كما جاء في شهادة أحد المرسَلين الطليان. يقول رينه بينون، في كتابه «القضاء على الأرمن» المنشور في العام 1916، أي أثناء المجازر التي بدأت منذ منتصف العام السابق، إنّ عدد الضحايا الوارد في بعض الصحف والمقدّر بـ 850،000 هو مبالغ به، ويعتقد أنّ العدد الأصحّ هو حوالي 500،000. نضيف إليه، من دون مبالغة، مليونًا آخر من الضحايا الذين سقطوا نتيجة التدابير المتخذة أثناء الحرب وما بعدها حتّى تاريخ إخلاء كيليكيا وولايات الأناضول حين عاد قسم كبير من الناجين بعد إعلان هدنة مودروس [مدينة واقعة في جزيرة ليمنوس اليونانيّة].

لم تتّخذ السلطات التركيّة أي تدبير لتموين القوافل، وتأمين الحماية لها، بل قامت بتشجيع وحتّى بتدبير الهجوم عليها، ونهبها من قبل القرويين وقطّاع الطرق الأتراك والأكراد، أو القضاء عليها من قبل رجال الدرك أنفسهم المسؤولين عن حمايتها. سقط آلاف المرحَّلين المنهوكين، نتيجة الجوع والعطش والتعب. وفي بعض الأحيان، كان الجلاّدون يقومون بإغراق ضحاياهم في الأنهر، أو يحرقوهم أحياء، أو ينهالون عليهم بالضرب، ويتفنّنون معهم بأبشع أنواع التعذيب. وفي غالب الأحيان، يخطفون الصبايا والأولاد، ويبيعوهم إلى بيوت الحريم عند المسلمين. وكان بعض المرحَّلين يموتون من الجوع أو المرض عند وصولهم إلى معسكرات الاعتقال غير الصحيّة في بلاد ما بين النهرين أو الصحراء العربيّة، أو بكلّ بساطة، يتمّ قتلهم فيها. قال ليبسيوس، الشاهد الألماني: «إنّ ترحيل الأرمن لم يكن سوى وسيلة مهذبة للقضاء عليهم».

جرت هذه الأعمال الفظيعة أثناء الحرب الكبرى، وتمّ التحقّق منها من خلال أدلّة دامغة. جمع «الكتاب الأزرق» الصادر عن الإنكليز، ومنشور «جمعيّة إغاثة الأرمن» السويسريّة، مادّة فادحة بحقّ تركيا، صادرة بمعظمها عن شهود عيان من جنسيّات محايدة، كالأمريكان والسويسريين والدانماركيين، وعن مرسَلين، وراهبات المحبّة، وموظفي الصليب الأحمر، والأطباء، والمعلّمين؛ وهناك بعض الشهادات الصادرة عن الألمان أنفسهم، مثل شهادة الأستاذ مارتن نيباج [أستاذ الصفوف العليا في المعهد التقني الألماني في حلب]. وبعد الحرب، أجازت الحكومة الألمانيّة للدكتور يوهانس ليبسيوس نشر مراسلات وزارة الخارجيّة، منذ العام 1914 حتّى العام 1918، وفيها ما يبيّن، بشكل فاضح، الفظائع التي ارتكبها الحليف التركي (ألمانيا والأرمن، يوهانس ليبسيوس، بوتسدام، 1919)…

ما جمعه الدكتور ليبسيوس في تلك التقارير يدحض بشكل كامل ونهائي جميع الروايات والأكاذيب التي روّج لها الأتراك الفتيان لإنكار مسؤوليتهم أو التقليل من أهميّتها. كما جاء الكتاب ليضع حدًّا للرواية التركيّة الرسميّة عن أعمال العصيان التي قام بها الأرمن. قبل البدء بعمليّات الترحيل، لم تجرِ سوى ثلاثة صدامات قليلة الأهميّة بين رجال الدرك وبعض الفارّين من الجنديّة في موش وزيتون ووان. وبعد البدء في المجازر، وفي بعض الأماكن مثل أورفا ووان والسويديّة وشاهين كاراهيسار [في حزيران 1915، قامت ميليشيا الهنشاق المؤلّفة من 250 رجلاً بانتفاضة ضدّ القوّات العثمانيّة، وتمركزوا في حصن خارج المدينة، وقاوموا الهجوم العثماني لمدّة شهر كامل] لم يبد الأرمن سوى مقاومة مسلّحة للقادمين لقتلهم، رأى فيها الأتراك مقاومة غير مرغوب فيها، وهم المعتادون، حسب ما كان يجري في الماضي، على موقف لا مبال من الضحايا. وهكذا، فإنّ ثورة وان الذائعة الصيت تمّت على الشكل التالي: بعد أن قام الوالي جودت بك بالهجوم على القرى المجاورة، والفتك ببعض الزعماء الأرمن، تحصّن أرمن وان في حيّهم، واستبسلوا في الدفاع عنه ضدّ القوات التركيّة لحين وصول الجيش الروسي.

ولم يَخسر الأتراك أكثر من ثلاثمئة رجل في جميع تلك الانتفاضات المزعومة، حسب ما قاله الألمان (راجع كتاب الدكتور ليبسيوس: ألمانيا والأرمن، ص. 78-69).

إنّ تقارير القناصل الألمان تقدّم تكذيبًا قاطعًا لاتهام آخر ساقه الأتراك بحقّ الأرمن، وهو التخطيط لعصيان شامل في جميع أنحاء الإمبراطورية. تؤكّد هذه التقارير عكس ذلك القول، وتقول بأنّ سلوك الأرمن لا غبار عليه، ولا وجود لأيّ دليل على خيانتهم (راجع كتاب الدكتور ليبسيوس: ألمانيا والأرمن، ص. 70).

أخيرًا، إنّ أخبار القيل والقال التركيّة عن مجازر ارتكبها الأرمن بحقّ الأتراك ليست إلاّ ضربًا من ضروب الخيال. في كتابه المذكور، يقدّم الدكتور ليبسيوس مثلاً عن تلك الاتهامات التركيّة النابعة عن نيّة سيئة واضحة. في 29 حزيران 1915، صدر بيان تركي يؤكّد أنّ ثلاثين ألفًا فقط من السكّان المسلمين في ولاية وان، البالغ عددهم مئة وثمانون ألفًا، تمكنوا من النجاة، فيما ظلّ الآخَرون تحت رحمة الروس والأرمن، من دون معرفة شيء عن مصيرهم. وبدوره، صرّح أنور باشا بأنّ ثلاثين ألفًا فقط من أصل السكّان الأتراك في ولاية وان، البالغ عددهم مئة وخمسون ألفًا، بقوا على قيد الحياة. وأخيرًا، صدر بيان عن السفارة التركيّة في برلين، بتاريخ 1 تشرين الأوّل 1915، يتكلّم عن ثورة الأرمن في وان التي قضت على مئة وثمانين ألفًا من مسلمي المدينة. وفي الحقيقة، إنّ ثلاثين ألفًا من أتراك وان هربوا أمام تقدّم الجيش الروسي، وليس بسبب ثورة الأرمن. وفيما يتعلّق بالمئة وخمسون ألفًا من المسلمين الأكراد الباقون في المدينة، فهم لم يعانوا شيئًا، لا من الروس، ولا من الأرمن. وقد بلغت خسائر الأتراك بالأرواح، أثناء اضطرابات وان، حوالي 18 رجلاً، وليس 180،000 ، حسب ما قال ليبسيوس (راجع كتاب الدكتور ليبسيوس: ألمانيا والأرمن، ص. 72-74)، وقام الأرمن بالدفاع عن أنفسهم أمام الهجمات التركيّة. وسوف نورد بعض التفاصيل في القسم الثاني من تلك المدوّنات.

من الممكن أن تكون قد حصلت أعمال انتقاميّة فرديّة قام بها بعض الأرمن، لكنّها حصلت، وفق قول ليبسيوس الصائب، وبعض المصادر التركيّة، بعد عمليّات الترحيل والمجازر، وليس قبلها (راجع كتاب الدكتور ليبسيوس: ألمانيا والأرمن، ص. 74). لكنّ المساهمة الأهمّ التي قدّمها هذا الكتاب الألماني بالنسبة إلى تاريخ العلاقات التركيّة الأرمنيّة أثناء الحرب الكبرى هي التأكيد على صحّة الشهادات الأخرى عن دور الحكومة التركيّة في عمليّة تنظيم المذابح.

تـتّــفق جميع التقارير الدبلوماسيّة والقنصليّة الألمانيّة على القول بأنّ المجازر تمّت بناءً على أمر من الحكومة الساعية إلى تطبيق مخطّط مدروس للقضاء على الشعب الأرمني بأكمله. وفيما يلي مقتطفات من تلك التقارير (راجع كتاب الدكتور ليبسيوس: ألمانيا والأرمن، ص. 76):

- «هذا ليس أقلّ من تدمير شعب بأكمله أو أسلمته بالقوّة» (تقرير القنصل كوشكوف من سمسون، 4 تموز 1916، رقم 116).

- في 7 تموز 1915، يقرّ ممثل ألمانيا المصمّم على توجيه إنذار شديد اللهجة إلى الحكومة التركيّة بما يلي: «منذ خمسة عشر يومًا كان ترحيل الأرمن ونفيهم مقتصرًا على المدن الواقعة على حدود الجبهة الشرقيّة، وعلى بعض المناطق الواقعة في ولاية أضنه. ومنذ ذلك الحين، قرّر الباب العالي توسيع الإجراء المذكور ليشمل ولايات طرابزون ومعمورة العزيز وسيواس، وقد بدأ التطبيق بالفعل، على الرغم من أنّ تلك المناطق ليست مهدّدة بشكل مباشر من تقدّم العدو. إنّ ظروف هذا القرار، والطريقة التي يتمّ فيها تطبيق الإجراء المذكور تثبت أنّ الحكومة التركيّة تعتزم فعلاً القضاء على الجماعة الأرمنيّة الموجودة في الإمبراطوريّة.»

أعتقد أنّ التقارير التي أرسلتها في السابق تبيّن أنّ الحكومة التركيّة تجاوزت، إلى حدّ بعيد، حدود الحماية المشروعة ضدّ المؤامرات الأرمنيّة، أكانت حقيقيّة أو مزعومة، وإنّ توسيع الإجراء ليشمل النساء والأطفال، وفرض تنفيذه على السلطات المحليّة تحت أشكال متنوّعة من القساوة والتصلّب، يدلّ على مواصلة الحكومة عمليّة القضاء على أكبر عدد ممكن من الشعب الأرمني، بوعي كامل، وبطرق مستوحاة من العصور القديمة، لا تليق بحكومة تريد التحالف مع ألمانيا. وما من شك أنّ الحكومة تريد اغتنام فرصة الحرب مع الحلف الرباعي للتخلّص من القضيّة الأرمنيّة في المستقبل، بحيث تُبقي فقط على عدد ضئيل من الجماعات الأرمنيّة المنظّمة. لقد قامت الحكومة بمجازر بحقّ الأبرياء، بالتعاون مع بعض الجناة.” (تقرير القنصل روسلر من حلب، 27 تموز 1915، رقم 120)

«إنّ أنصار التوجّه الأخير، أي التوجّه المتطرّف في لجنة الأتراك الفتيان، متفقون على أنّ الهدف النهائي من العمل الذي يقومون به ضدّ الأرمن هو القضاء الكامل عليهم في تركيا. وقد قال أحد المسؤولين: بعد الحرب، لن يكون عندنا أرمن في تركيا.» (تقرير القنصل فون شويبنر ريشتر من أرضرّوم، 28 تموز 1915، رقم 123)

- أرسل هنري وود تقريرًا مؤرّخًا في 14 آب 1915 ينقل فيه الجواب الذي أعطاه أنور باشا على المساعي التي بُذلت لصالح الأرمن الأبرياء، جاء فيه: «يصعب علينا التمييز بين الأبرياء والمذنبين من الأرمن البالغ عددهم حوالي المليونين، بنيّة الإعفاء عنهم. نحن واثقون من النيل من المذنبين عندما نقتلهم كلّهم».

- اتّخذت حكومة الأتراك الفتيان قرارًا يقضي بجعل الشعب الأرمني في تركيا يصل إلى مستوى من الدونيّة بحيث لن يتمكن من الإفلات منها، ولو بعد خمسين سنة. يجب تأمين التفوّق المطلق للعرق التركي. إنّها إحدى قواعد النظام لدى الأتراك الفتيان. في 16 آب 1915، كتب ألمان كونيا إلى سفارتهم في القسطنطينية يقولون: “إنّ الهدف الكامن وراء جميع تلك الإجراءات، كما يبدو، هو إبادة الأرمن. تشكّل هذه المعاملة اللاإنسانيّة عارًا لا يُمحى من التاريخ”.

- بعد أن أثارت أخبار الأسلمة القسريّة سخطًا في ألمانيا، قام عدد كبير من البروتستانت النافذين، وأعضاء المؤتمر المركزي للإرساليّات الكاثوليكيّة، بتقديم مذكرة إلى السيّد بيتر هولبد، في 12 تشرين الثاني 1915، فوعدهم بالسعي كي لا يُضطهد المسيحيّون في تركيا بسبب معتقدهم. لكنّ القضاء على الأعراق غير التركيّة كان الهدف المتّفق عليه بين أنور وطلعت: أراد الأوّل تحقيقه عن طريق تشتيت المسيحيين ودمجهم مع المسلمين، والثاني عن طريق المجازر. لذلك، تمّ توزيع النساء والأولاد ما دون الثالثة عشرة سنة على العائلات التركيّة، وسيق الأرمن الباقون إلى القتل، من دون رحمة.

أثناء تلك الأحداث المصيريّة، قدّم مهندس ألماني كان يعمل في بناء سكة الحديد بين بغداد وراس العين وتلّ أبيض، وهو جدير بالثقة تمامًا، تقارير مؤثرة تبيّن كيف أنّ إبادة المرحَّلين كانت تتمّ على يد أجهزة الحكومة التركيّة، بكلّ وعي، وعن سابق تصوّر وتصميم. (تقرير القنصل رِسلر من حلب، 3 كانون الثاني 1916، رقم 226)

يتصرّف قسم كبير من لجنة الأتراك الفتيان من وجهة نظر أنّ الإمبراطورية التركيّة يجب أن تكون مبنيّة على قاعدة إسلاميّة وقوميّة تركيّة بحتة، ويجب أسلمة جميع المواطنين غير المسلمين وغير الأتراك، وضمّهم بالقوّة إلى الجنس التركي، أو إبادتهم في حال لم يكن ذلك ممكنًا. ويبدو أنّ الظروف الحاليّة مؤاتية أمام هؤلاء السّادة لتنفيذ مخططهم هذا. وتقضي المرحلة الأولى بتصفية الأرمن. (تقرير القنصل فون شويبنر من مونيخ، 4 كانون الأوّل 1916، رقم 300)

– لم تأتِ تقارير السفراء أقلّ جزمًا من تقارير القناصل. فمنذ السابع من حزيران 1915، كتب السفير ڤانغنهايم إلى المستشار الألماني فون بتمان هولفيغ يقول: «في الواقع، إنّ حكومة الأتراك الفتيان تهدف إلى إبادة الجنس الأرمني من الإمبراطوريّة التركيّة». وكان السفير نفسه سبق وأيّد إجراءات الترحيل أمام المستشار، في 31 أيار. وفي 17 حزيران 1915، يعاود السفير تأكيد ما جاء سابقًا، ويقول للمستشار: «من الواضح أنّ ترحيل الأرمن ليس بدافع الاعتبارات العسكريّة فقط. إنّ وزير الداخليّة، طلعت بك، صرّح مؤخرًا وبكلّ صراحة، أمام الدكتور مورتمان، الواضع نفسه الآن بخدمة السفارة الإمبراطوريّة، بأنّ الباب العالي يريد اغتنام فرصة الحرب العالميّة للتخلّص، بشكل نهائي وجذري، من أعداء الداخل (المسيحيين من أهل البلاد) من دون تدخل ديبلوماسيّ خارجي معرقل.» (الرقم 81)

- وفي 17 تموز، في تقريره عن توسيع عمليّات الترحيل لتشمل الولايات غير المهدّدة من زحف العدو، يقول البارون ڤانغنهايم ما يلي: «إنّ الظرف الحالي، بالإضافة إلى الطريقة التي يجري فيها الترحيل تدلّ على أنّ الحكومة تسعى بالفعل للوصول إلى هدف إبادة الجنس الأرمني من الإمبراطوريّة العثمانيّة». (الرقم 106)

- جاء في برقيّة الأمير هوهنلوهي [سفير ألمانيا في القسطنطينية] إلى قنصل ألمانيا في حلب، في 2 آب 1915، ما يلي: «لم تتمكن جميع الهيئات الممثلة لنا من فعل أي شيء أمام تصميم الحكومة للتخلّص من المسيحيين من أهل البلاد في الولايات الشرقيّة.» (الرقم 127)

- يصف الكونت وولف ميتيرنيخ [سفير ألمانيا في القسطنطينيّة 1915-1916] في تقريره إلى مستشار الإمبراطوريّة، الصادر في 30 حزيران 1916، الضغوط التي يمارسها الأتراك الفتيان على الحكومة المنبثقة عنهم، ويظهر درجة الودّ التي يكنّها هذا الدبلوماسي الألماني تجاه حلفائه الأتراك الفتيان، ويقول:

«تُصرّ اللجنة على التخلّص من الأرمن الباقين، وعلى الحكومة الرضوخ. لكنّ الحكومة ليست وحدها الممثلة للجنة في العاصمة. فعند جميع السلطات، من الوالي إلى القائمقام، يوجد عضو من اللجنة لمراقبتهم وتوجيههم. استأنفت عمليّات ترحيل الأرمن في كلّ مكان. لكنّ الذئاب الجائعة في اللجنة لا يتوقّعون الحصول على شيءٍ من هؤلاء البؤساء، سوى أنّهم يقومون بإشباع غضبهم عن طريق الاضطهاد المتعصّب. صودرت الأملاك منذ زمن بعيد، وصُفّيت الممتلكات بواسطة ما يُسمّى لجنة الممتلكات المتروكة. على سبيل المثال: إذا كان أرمنيّ يملك بيتًا بقيمة مئة ليرة تركيّة، يُعطى إلى أحد الأتراك يكون عضوًا في اللجنة أو صديقًا لأحد الأعضاء، بليرتين تركيتين. لم يبق شيء للبحث عنه عند الأرمن. لذلك، ينتظر القطيع، بفارغ الصبر، الوقت الذي تُعلن فيه اليونان عن نفسها ضدّ تركيا وحلفائها، بضغط من التحالف، كي تبدأ مجازر جديدة على نطاق أوسع من مجازر الأرمن. فالضحايا أكثر، والغنائم أكثر إغراءً. الهيلينية هي المكوّن الثقافي لتركيا. سوف يتمّ القضاء عليه مثل المكوّن الأرمني في حال لم تعترض المؤثّرات الخارجيّة. التتريك يعني الطرد أو القتل، وإبادة كلّ ما هو ليس تركي، والاستيلاء على أملاك الغير بالقوّة. في هذا الأمر، وفي تكرار عبارات الثورة الفرنسيّة بصوت زاعق، تقوم اليوم نهضة تركيا الشهيرة.» (رقم 282)

- وفي النهاية، نورد برقيّة الكونت وولف ميتيرنيخ نفسه إلى المستشار الألماني بتمان هولفيغ، بتاريخ 10 تموز 1916، وجاء فيها:

«لم تتوقّف الحكومة التركيّة عن تنفيذ مخططها لحلّ القضيّة الأرمنيّة عن طريق إبادة الجنس الأرمني، ولم تثنها عنه الهيئات الممثلة لنا، ولا السفارة الأميركيّة، ولا ممثل البابا، ولا تهديدات التحالف، ولا طبعًا أمر مراعاة الرأي العام في الغرب.» (رقم 287)

وباختصار، إنّ المراسلات الدبلوماسيّة الألمانيّة تثبت، بشكل قاطع، أنّ المجازر بحقّ الأرمن تمّت بناءً على أوامر صادرة عن حكومة الأتراك الفتيان التي أرادت اغتنام فرصة الحرب الكبرى للتخلّص من المسألة الأرمنيّة، للمرّة الأخيرة. ما من شكّ أنّ العوامّ، أثناء تنفيذ هذا التدبير الصادر عن الإدارة التركيّة، قد أظهروا كلّ تعصّب وقسوة، وأفلتوا العنان لغرائزهم الجشعة، بطريقة رهيبة وبشعة. لكنّ المبادرة في المجازر لم تنجم أبدًا عن انفجار الغضب الشعبي إزاء خيانة الأرمن المزعومة، كما حاول الأتراك الفتيان تسويقه. لقد قامت الصحافة في دول التحالف، وفي الدول المحايدة، بتفنيد روايات الأتراك الخياليّة وأكاذيبهم، وجاءت عمليّة نشر المراسلات الدبلوماسيّة الألمانيّة لتسدّد رصاصة الرحمة عليها. من المستحيل الطعن بقيمة الشهادات الصادرة عن موظفي ألمانيا، حليفة تركيا، المسؤولين عن إعلام حكومتهم، بشكل يوميّ وبالتفصيل، عن الأوضاع الداخليّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة التي لها تأثير كبير على مجرى الحرب الكبرى.

ولا يمكننا إقفال هذا الفصل عن مسؤولية الأتراك الفتيان بشكل أفضل سوى بالعودة إلى تصريح الصدر الأعظم داماد باشا [داماد هو لقب كان يُمنح لمن يُصاهر السلطان، والمعني هنا هو الداماد محمد عادل فريد باشا] أمام المجلس الأعلى، في 17 حزيران 1919، حيث تقرّ الحكومة التي أتت بعد حكومة الأتراك الفتيان بمسؤوليّة هذه الأخيرة عن الجرائم المرتكبة، ويقول:

«أثناء الحرب، اهتزّت مشاعر معظم الدول المتحضرة عند سماعها أخبار المجازر المزعومة التي تمّت على يد الأتراك. لا أبغي هنا تحريف تلك الجرائم البشعة التي ما زال يرتعش أمامها الضمير الإنساني، ولا أبغي التقليل من ذنب الذين قاموا بتلك المأساة الكبيرة. أبغي فقط أن أبيّن للعالم من هم المرتكبون الحقيقيّون المسؤولون عن تلك الجرائم الفظيعة، مؤيّدًا أقوالي بالأدلّة.»

هــ - شهادة المطران أندريه أحمرانيان (ص 316-344)

تألّفت بعثة من المطران بيار كويونيان، رئيس أساقفة خلقيدونيا شرفًا، والمشرف على الكهنة الأرمن في روما، وأمين سرّه، والأب اندريه أحمرانيان، والتقت العديد من الناجين، معترفون حقيقيّون للإيمان، ومعظمهم يجرّون أجسادهم المشوّهة بفرح، ونساء ينقصهنّ كلّ شيء، وأطفال فقدوا حتّى أرجلهم وأيديهم، ورجال من كلّ الأعمار قُطعت أنوفهم وآذانهم. وبناءً على طلبنا، أرسل لنا الخورأسقف أحمرانيان تقريرًا موثوقًا عن الأحداث وعن الأوضاع في الأبرشيّة التي أوكل إليه أمر خدمة المؤمنين فيها لمدّة عشر سنوات بعد الهدنة… يقول فيه:

«في كلّ مرّة أتذكّر فيها الأحداث الأليمة التي جرت في أبرشيتنا الأرمنيّة الكاثوليكيّة إبّان العام 1915، حين هُرق الدم، وارتُكبت المجازر الوحشيّة التي لم يسبق لها مثيل، ومن بعدها التدمير والتخريب، ينفطر قلبي من الحزن، وتنهمر دموعي. أحزن على مصير تلك الأبرشيّة التي كانت من أفضل الأبرشيّات الأرمنيّة الكاثوليكيّة الأخرى، وشعلة مشرقة من الإيمان والحياة المسيحيّة، بما يتمتّع به المؤمنون من إيمان حيّ، والتزام بالكنيسة الكاثوليكيّة، وتميّز بممارسة شعائرهم الدينيّة، استنادًا إلى التقليد، فضلاً عن ولائهم لسلطات الإمبراطوريّة العثمانيّة ومؤسّساتها.

في البدء، لم أصدّق ما سمعته عن تلك المآسي، وهذه الفظائع التي لم يسبق لها مثيل، إلى حين سنحت لي الفرصة للتحقّق منها شخصيًّا، وذلك بعد عودتي إلى مسقط رأسي، في 12 تشرين الأوّل 1919، برفقة الزائر الرسولي، المطران بيار كويونيان، الآتي من روما إلى ماردين، عن طريق استنبول، للقيام بجولة تفقدية، ومحاولة بناء ما تهدّم. أثناء مكوثي في ماردين لمدّة عشر سنوات، في هذه المدينة التعيسة، حيث كرّستُ نفسي لخدمة المؤمنين الكاثوليك الروحيّة، قمتُ بتجميع الأخبار عن تلك الأحداث المؤسفة، والاستعلام عن مصير كلّ عائلة، وتدوين الروايات الأكثر مصداقيّة، من لسان الشهود العيان الذين لم يعد لديهم أيّ سبب وتردّد لوصف وقائع تلك المضايقات والاضطهادات والجرائم التي ارتكبها أعداء الاسم المسيحي ضدّ العديد من الرجال والنساء والشباب والصبايا والشيوخ والأطفال، بمن فيهم حديثي الولادة، من دون أي رحمة ولا شفقة.»

يُضيف الأباتي أحمرانيان بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام عن الاعتقالات التي حصلت في 3 و 10 حزيران، ويقول:

«… في 3 حزيران، اعتقل الجنود المطران مالويان وقادوه إلى سراي الحكومة حيث جرى نقاش بينه وبين المتصرّف، أجاب فيه المطران عن كلّ سؤال وُجّه إليه، بحزم وشجاعة. ومع ذلك، لم يقتنع الضبّاط، فمدّدوه على الأرض، وقام أحدهم بضربه بطريقة وحشيّة.

قال له الأسقف: “لا يحقّ لك القيام بضرب شخص عيّنته الحكومة رئيسًا دينيًّا، ومنحته وسام شرف، والفرمان الشاهاني.”

أجابه الحاكم بأنّ السيف اليوم يتكلّم مكان الدولة، ولا فائدة بعد من الوسام والفرمان. وقال ضابط آخر: “أنصحك بقبول الديانة الإسلاميّة”. حينها غضب الأسقف وأجاب بصوت عال: “لا، لا، لن أنكر أبدًا مخلّصي يسوع المسيح، وأنا على استعداد لهدر دمي من أجل إيماني، وهذا أطيب شيء على قلبي. أضربوني، واقطعوني إربًا إربًا، لن أنكر إيماني المسيحي.”

أثارت كلمات الأسقف الشجاعة غضب الحاضرين وحقدهم، فصفعه أحدهم وقال له: “أهكذا تحتقر ديننا… وفي سراي الحكومة؟ أقسم أنّني سأقوم بتعذيبك من كلّ قواي.”

وأثناء الليل، مدّدوه على الأرض، وربطوا قدميه، وضربوه على رجليه بالكرباج اثني عشرة ضربة. وعند كلّ ضربة كان يصيح: “يا ربّي وإلهي ارحمني”. ثمّ جرّوه من قدميه، وأُصيبت أطرافه برضوض، فصرخ قائلاً: “إذا سمعني أحد الكهنة فليعطني الحلّة الأخيرة”. وكان الأب بولس كاسباريان هو مَن حقّق رغبته تلك.

لم يكتفِ الأعداء بهذه العذابات، بل جلفوا أظافر قدميه. استمرّ عذابه حتّى التاسع من حزيران حين سُمح لأمّه بزيارته، فطلب منها حذاءً عريضًا من دون أن يذكر لها ما تحمّل من عذابات كي لا يُحزنها.

وفي العاشر من حزيران، سيق المطران إلى خارج المدينة مع الإكليرُس التابعين له والأعيان في أبرشيته، في قافلة ضمّت 417 شخصًا. تعرّضوا كلّهم للتعذيب، والأسقف آخرهم. خاطب الضابط المسؤول وقال له: “أنا متأكد الآن بأنّ معاونيك قاموا بضرب أولادي، وعذّبوهم حتّى لفظوا أنفاسهم الأخيرة، ولا أشكّ لحظة بأنّي سألاقي المصير نفسه. دعني الآن أُسمع الباقين كلمتي الأخيرة.” ركع الأسقف، وتبعه الآخَرون، وطلب العون من الربّ. أخذ قطعًا من الخبز وقدّسها وأعطاها لهم. في ذلك الوقت، ظهرت سحابة منوّرة غطّت السرّ المهيب فيما كان الأسقف يعطي المناولة إلى الشهداء. لاحقًا، قال بعض الشهود العيان الأتراك بأنّهم شمّوا روائح طيّبة، ورأوا الفرح باديًا على وجوه المتناولين.

وأخيرًا، توجّه الأسقف إلى ممدوح وقال له: “لقد قمتّ بالواجب الأخير، افعل الآن ما تريد”. حينها سيقت القافلة إلى قلعة زرزوان حيث استُشهدوا كلّهم، وبقي الأسقف وممدوح لوحدهم. فكرّر ممدوح أسئلته على الأسقف الذي أجاب: “أرى أنّك تجاهلتَ كلّ ما قلته لك، بأنّ الاتهامات الموجّهة إليّ لا أساس لها. اقتلني الآن ودعني أذهب لملاقاة زملائي.”

فتناول ممدوح مسدسه، وأطلق رصاصة على رأس الأسقف الذي سقط شهيدًا للإيمان المسيحي.»

أولاً: نعوة الإكليرُس الأرمني الكاثوليكي

نعرض فيما يلي الأسماء والأماكن كما جاءت في لائحة الخوراسقف أحمرانيان.

- المطران اغناطيوس مالويان. وُلد في ماردين، في 8 نيسان 1869. دخل إكليريكيّة بزمّار البطريركيّة العام 1883 حيث رُسم كاهنًا العام 1896. عُيّن نائبًا بطريركيًّا على الاسكندريّة، ثمّ رُقّي إلى درجة الأسقفيّة وعُيّن أسقفًا على ماردين العام 1911. في هذه المناسبة، وأثناء مروره بدير بزمّار، قال بضع كلمات تعكس روح التواضع عنده، والمشاعر التي تليق حقًّا بشهيد المستقبل: “لم أقم بشيء يستحقّ الذكر أو الثناء أثناء حياتي الكهنوتيّة. والآن، بعد أن صرت أسقفًا، وطُلب منّي العودة إلى مسقط رأسي ماردين، أنا ذاهب إلى هناك بناءً على أمر تلقّيته من غبطة البطريرك، كفّارة عن خطاياي، ولإعادة السلام والوئام في قلوب المؤمنين… إنّها حلقة من حياتي البائسة. أمّا بالنسبة إلى ماضيّ غير المهمّ، فهو معروف من قبل الجميع في الدير.”

وصل مالويان إلى ماردين في أواخر العام 1912، متحلّيًا بروح الخدمة الرعويّة، والإرادة في التكفير عن خطاياه، لتحقيق التقدّم الثقافي والديني في أبرشيّته. تفانى في الوعظ والإرشاد، بشكل خاصّ، ونظّم رياضات سنويّة لجميع فئات المؤمنين، حرص على أن يكون فيها هو الواعظ. ومع بدء الحرب العالميّة، شعر بأنّ الاستشهاد ينتظره، كما أشرنا إليه سابقًا، فأقدم عليه، وهو الراعي الجدير المقدام، وكان ذلك في 11 حزيران 1915، عيد قلب يسوع الأقدس.

يوجد في أبرشيته وتحت عنايته تسعة عشر كاهنًا، موزَّعين في ماردين وملحقاتها على الشكل التالي:

- في كاتدرائيّة القديس جرجس: جان بوطوريان. وُلد في ماردين العام 1835، ورُسم كاهنًا فيها العام 1865. إنّه الأكبر سنًّا بين إكليرُس الأبرشيّة. سُجن في غرفة مربّعة ضيّقة لا يتعدّى ضلعها خمسة أشبار [حوالي المتر الواحد] حتّى الخامس عشر من تموز، ثمّ سيق مع إخوانه في القافلة الأولى [من النساء] وقُتل معهم.

- إسطفان حولوزو. وُلد العام 1845. درس في إكليريكيّة بزمّار البطريركيّة، ورُسم كاهنًا في ماردين، في 20 آب 1870. بعد إلقاء القبض عليه، مُدّد هذا الكاهن الطاعن في السنّ، خادم كنيسة القدّيس يوسف، على الأرض، وضُرب بطريقة وحشيّة ليعترف بأنّه أخبأ عنده أسلحة، ما لم يقم به أبدًا.

- يعقوب فرجو. مساعد الأب حولوزو السابق ذكره. وُلد العام 1850 في تلّ أرمن، ورُسم كاهنًا في ماردين العام 1871. أُدخل السجن مع رفيقه، وتعرّض للضرب بالسياط، وتلقّى جميع أشكال الإهانات.

بعد رحيل الكاهنين، تعرّضت كنيسة القدّيس يوسف للتخريب، ونُهبت محتوياتها القيّمة والثمينة. وبعد ذلك، جرى تدمير قبور رؤساء الأساقفة في كاتدرائيّة القدّيس جرجس، ومن ثمّ تمزيق اللوحات المقدّسة المرسومة على القماش، والاستيلاء على الأواني المقدّسة.

سيق الكاهنين مع المرحَّلين في القافلة الثالثة. وحين وصولهم إلى الباب الشرقي في المدينة، تمّ القضاء عليهم كلّهم، وكان ذلك في 2 تموز 1915.

– اندريه بدروسيان. وُلد في ماردين العام 1844، ورُسم كاهنًا في المدينة نفسها، في 30 آب 1871. كان خوري رعيّة دَيركه، وقُتل فيها.

- أتناس بطانيان. وُلد في 4 آذار 1862، ورُسم كاهنًا في ماردين في 25 آذار 1884. قُتل في القافلة الأولى.

- انطوان أحمرانيان. وُلد في 20 أيلول العام 1862، ورُسم كاهنًا في ماردين، في 21 تشرين الأوّل 1888. أُلقي القبض عليه في تلّ أرمن حيث كان كاهنًا للرعيّة فيها، واقتيد إلى ماردين بطريقة بشعة، حيث أُجبر على الركوع وسط ساحة البلدة العامّة، والسير على هذه الحال، واضعًا منديل عمامته الشرقيّة في فمه. تبعه موكب من الفضوليّين يسخرون منه ويشتمونه، إلى أن وصل إلى الحبس حيث ضُمّ إلى رفاقه فيه. ثمّ سيق مع الكهنة الآخرين والأعيان إلى موقع الشهادة، في 10 حزيران 1915.

- إسحق حولوزو. وُلد في ماردين العام 1877، ورُسم كاهنًا في 27 كانون الثاني 1895. أُلقي القبض عليه في ڤيرانشهر حيث كان كاهنًا للرعيّة، في الثالث من حزيران، واقتيد إلى ديار بكر حيث سُجن وتعرّض للمعاملة السيّئة المعروفة. وبعد خمسة عشر يومًا، سيق إلى تلّة بالقرب من المدينة، وقُتل هناك.

- ليڤون نزاريان. وُلد في 18 نيسان العام 1866، ورُسم كاهنًا في ماردين، في 19 كانون الثاني 1892. أُلقي القبض عليه في ديار بكر حيث كان يقوم بتصريف بعض الأعمال، وقُتل في منتصف الطريق.

- ميناس ناعمه. وُلد في 2 حزيران 1874، ورُسم كاهنًا في ماردين، في الأوّل من كانون الثاني العام 1903. أُلقي القبض عليه في تلّ أرمن، ليس بالتزامن مع رفيقه أحمرانيان، وسيق إلى قرية دارَه حيث قُتل في 26 تموز العام 1915.

- يوحنا كاليونجي. وُلد في الأوّل من كانون الثاني العام 1878، ورُسم كاهنًا في ماردين، في 19 كانون الثاني 1898. تمّ ترحيله إلى قرية دارَه، وقُتل فيها، بعد أن جُلفت أظافر قدميه.

- نرسيس جِرّو [تْشيرو]. وُلد في 15 آب، ورُسم كاهنًا في ماردين، في 18 أيار العام 1904. قُتل في سْعرت.

- بول كاسباريان. راهب مخيتاري من ڤينيتسيا. وُلد في ماردين العام 1880، ورُسم في دير القدّيس لعازر في ڤينيتسيا، العام 1906. كان أمين سرّ المطران مالويان، وقُتل معه في القافلة نفسها، في 11 حزيران 1915.

- اغناطيوس شادي [شاديان]. وُلد في ماردين العام 1889. درس في إكليريكيّة القدّيس لويس في القسطنطينيّة. رُسم كاهنًا في ماردين لتجنيبه الالتحاق بالخدمة العسكريّة، وذلك بضعة أسابيع قبل إلقاء القبض على رئيس الأساقفة. تمّ ترحيله، وقُتل في قرية دارَه.

- أوغسطينُس بغداساريان. وُلد العام 1887، ورُسم كاهنًا في ماردين العام 1911.

- ڤارتان صباغيان. وُلد العام 1888، ورُسم كاهنًا العام 1911، وقُتل في إحدى قوافل المرحَّلين.

- جبرائيل كتمرجي. وُلد في 13 أيار العام 1888. درس في إكليريكيّة القدّيس لويس في القسطنطينيّة. نتفوا لحيته، وعذّبوه بقسوة، وجلفوا أظفاره، وساقوه سيرًا على الأقدام، وهو في تلك الحالة، للالتحاق بقافلة المرحَّلين الأولى وقُتل معهم. وفيما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، ابتلع ذخيرة عود الصليب كي يجنّبها التدنيس.

- بولس شاديان. كاهن رعيّة دارَه. وُلد في ماردين العام 1880، ورُسم كاهنًا العام 1909.

عُرض الجحود على جميع هؤلاء الكهنة، فجابهوا العرض بالرفض القاطع معبّرين عنه بصوت صارخ، لذلك تعرّضوا إلى شتّى أنواع العذابات، ثمّ تمّ قتلهم. وما زالت صهاريج القلاع التاريخيّة في زرزوان وأخرس ودارَه تحتفظ ببقاياهم المجيدة.

ثانيًا: نعوة بعض أعيان ماردين

يُضيف الخوراسقف أحمرانيان لائحة ثانية على اللائحة السابقة من الكهنة المقتولين، مؤلّفة من أعيان الأرمن الكاثوليك في ماردين الذين تميّزوا بموقفهم الشجاع، موقف المسيحيين الحقيقيين أمام الموت قتلاً الذي تعرّضوا له بظروف مروّعة.

سارع الذين وضعوا مخطّط القضاء على الجنس الأرمني إلى التخلّص أوّلاً من المثقفين الذين كانوا، بنظرهم، موضع شبهة، ومتّهمين بالخيانة أو العصيان، كما كانوا يفعلون في المدن الواقعة في ولايات الإمبراطوريّة الأخرى. وفي ماردين، حيث الأرمن كلّهم من الطائفة الأرمنيّة الكاثوليكيّة، وهم لا يشكّلون الخطر المزعوم، تعرّضوا للأعيان الأرمن الأكثر وجاهة، وبعد إلقاء القبض عليهم، زُجّوا في الحبس، وخضعوا لأبشع أنواع التعذيب المعيّن من اللجنة المكلّفة تنفيذ مخطّط الترحيل والمجازر. تَميّز هؤلاء الكاثوليك، كما باقي المؤمنين، بالمحافظة على إيمان الأجداد، وبالشجاعة المسيحيّة التي مكنتهم من الاقبال على الموت، ورفض الجحود كشرط لخلاص أنفسهم. ننقل، فيما يلي، بعض الأسماء والمعلومات التي أوردها الخوراسقف أحمرانيان:

- نعوم جينانجي. أثناء وجوده في الحبس، عقلوا قدميه بالعقلة، وضربوه 82 ضربة، ثمّ أجبروه على المشي وهو في هذه الحالة، والتوجّه إلى سطح السجن حيث دفعوه إلى أسفل، فتحطمت أعضاؤه، وسارع رفاقه إلى حمله وتشجيعه على التحلّي بالصبر، إلى حين تمّ ترحيله وقتله.

– أنطون كاسبو. تلقّى أكثر من 40 ضربة فَلَق على رجليه، وضُرب على رأسه، ثمّ اقتيد إلى مكان عال، ودُفع إلى أسفل كما حصل مع رفيقه السابق ذكره. وفي اليوم التالي، أُجبر على المكوث سبع ساعات في بيت الخلاء. ثمّ دأب أحد المجرمين على ضربه من جديد حتّى أُغمي على أنطون المسكين نتيجة هذا الضرب. تمّ ترحيله وقتله.

- عبد الكريم باطري. عقلوا قدميه، وضربوه 150 ضربة صار المسجونون يعدّونها واحدة تلوى الأخرى، وقلبهم ينفطر حزنًا على هذه المشاهد. مثله مثل الآخرين، دفعه الجزّارون إلى أسفل، وأجبروه على اللحاق برفاقه في القوافل.

- مال الله. هو شقيق المطران مالويان. تناوب الأعداء على ضربه بالعصي والسياط إلى أن أُنهكت قواه. وعلى غرار ما حصل مع رفاقه، جرّوه إلى مكان عال، ودفعوه إلى أسفل، فوصل إلى الأرض مكسور الظهر والأطراف، ولاقى مصيره بين قوافل الترحيل، وهو على هذه الحالة.

- اسكندر آدم. علّق الأعداء حبلاً ضخمًا في سقف غرفة التعذيب، وربطوا رأسه فيه، وتركوه على هذه الحالة لساعات طوال، تحت خطر الموت في مكانه، وأتى ممدوح بك، الجلاّد القاسي القلب، للطمه وتعذيبه. ثمّ اقتادوه وضمّوه إلى رفاقه استعدادًا للرحيل نحو ساحة الموت.

- سعيد ابن الوزير. صبّوا عليه البترول وأحرقوه حيًّا.

- أوهانّس ساعور. هو قندلفت كاتدرائيّة القدّيس جريس. صبّ الجلاّدون غضبهم عليه بشكل خاصّ لإجباره على الاعتراف عن مخبأ الأسلحة في الكنيسة. ثمّ وضعوا أجراسًا صغيرة في عنقه، وأجبروه على المشي وهو على هذه الحال، كي يسخروا منه. وأخيرًا، ضمّوه إلى القافلة الثانية، وقتلوه مع رفاقه في 15 حزيران.

- داود حنا سوسي جينانجي. كان شابًّا. حرق الأعداء جسده بواسطة قضبان من الحديد المحمّرة على النار، وتعرّض للضرب المبرّح، فسقط نتيجة تلك العذابات، في 6 حزيران، وجُرَّت رفاته في الطرقات. بعد أن أُخبر أهله بهذا المشهد المأساوي سارعوا إلى دفنه، والدموع تنهمر على جثمانه.

- سعيد بطاني. هو مختار الأرمن الكاثوليك في ماردين والمكلَّف من الحكومة، في الوقت نفسه، بجمع الضرائب والرسوم. أُوقف في 11 حزيران، واقتيد إلى السجن حيث تعرّض للضرب المبرح، فغطّت الكدمات جسمه. ثمّ أُحرق جسده بواسطة قضبان من الحديد المحمّرة على النار. ضُرب بالسوط أكثر من ثلاثة آلاف ضربة كان المسجونون يعدّونها الواحدة تلو الأخرى. أخيرًا، اقتيد إلى كهف يقع في جوار المدينة، وقُتل هناك.

-  سعيد حَيلو. تلقّى أكثر من 550 ضربة بواسطة قضبان الرمان. دُفع من مكان عال إلى أسفل، ثمّ قُتل مع رفاقه السابق ذكرهم.

- جرجس بن جبرايل حاجيكي. تعرّض هذا الولد البريء إلى ضرب مبرّح بحضور والده جبرايل الذي كان ينظر إليه والدموع تملأ عينيه، وقلبه منفطر من الألم. عُذّب لعدّة أيّام، وفي كلّ مرّة كان يُفرض على أبيه مرافقته إلى قاعة التعذيب، ثمّ العودة به، والمرور أمام المسيحيين ليعرفوا ما جرى له. في 2 تموز، سيق الأب والابن إلى المكان المشؤوم حيث استُشهدا معًا.

- يوسف مالو. كان في السادسة عشرة من عمره، شابًّا متواضعًا وذكيًّا وخفيف الظلّ. ضُرب بقسوة طوال خمسة عشر يومًا، ثلاث مرّات في اليوم الواحد وهو في السجن، محتملاً عذاباته بصبر، من دون أن يتفوّه بكلمة، وأقدم على الموت شهيدًا شجاعًا للإيمان الكاثوليكي.

- توما يوسف حَنجو. ضُرب سبع مرّات إلى أن أصاب الشلل أطرافه، وتدفقت دماؤه من جميع جهات جسمه الذي اكتسى بالجروح. أخيرًا، اقتيد إلى ساحة الموت، وقُتل في 2 تموز.

- جرجس حنا آدم. هو جرجس بن حنا آدم الذي تعرّض للعذابات الأكثر قساوة. أُلقي القبض عليه في 25 أيار، واقتيد إلى دير الراهبات الفرنسيسكانيّات حيث جُرّد من ملابسه، وسُكبت المياه القارسة على جسمه العاري لمدّة طويلة، وتعرّض للضرب بالعصا، مثله مثل غيره من المسجونين، حتّى تعب الجلاّدون. وعند كلّ ضربة، كانوا يقولون له: «أَسلم تخلص». لكنّ المسيحيّ الباسل كان يجيب بصوت عال: «أنا مسيحي، وأريد أن أموت على إيمان المسيح»”. استمرّ الضرب عليه حتّى تَورَّم جسمه، وصار لحمه أشلاء، وجسمه كجثة هامدة. سُلّم إلى ذويه الذين قدّموا له الاسعافات اللازمة لكي يستعيد قواه. وبعد فترة، في 10 حزيران، أُعيد القبض عليه، واقتيد مع القافلة الأولى نحو ساحة الشهادة حيث قُتل مع رفاقه.

على هؤلاء الضحايا، يجب إضافة: فتح الله شلمّي، جبرايل نهبيه الذي أُصيب بالجنون، رزق الله ديلنجي، شكري كَسبو، يعقوب ويوحنا أولاد عبد المسيح نجيم، يوسف خضرشاه وابنه ميخائيل، رزق الله طازباز، وغيرهم من الذين تعرّضوا لأبشع أنواع التعذيب، وقُتلوا بلا رحمة.

يبقى الإشارة بشكل خاصّ إلى المدعو برّو، زعيم روسان والعين، المشهور بنفوذه وغناه. هجموا بغتة على دياره، وقتلوه مع جميع أفراد عائلته، ثمّ صادروا ممتلكاته.

ثالثًا: حالة الياس جرجي نصري نزاريان وشهادته

على هذه اللائحة من الأعيان، أُضيف شهادة أحد سكّان ماردين، من ضحايا المجزرة الذين تمكنوا من الإفلات عن طريق الصدفة. ما زال هذا الشاهد الأصيل يعيش اليوم في بيروت، وقد سمعتُ منه الرواية التالية:

في العام 1915، في عيد الجسد، أُلقي القبض على سيّدنا مالويان، مطران ماردين. وفي عيد التجلّي من السنة ذاتها (6 آب) أُلقي القبض عليّ وعلى 360 شخصًا من الأرمن الكاثوليك. قالوا لنا بأنّ ديار بكر تعرّضت للحريق، وعلينا الذهاب لإخماده. تمّ تقييدنا، كلّ أربعة أشخاص مع بعضهم البعض، وأخذونا إلى صهريج موسى حيث كان أربعة جزّارون بانتظارنا للقضاء علينا، ورمي جثثنا في الصهريج. تلقّيتُ ضربة خنجر وبضع ضربات بالعصي، لكنّني رميتُ بنفسي في الصهريج قبل تلقّي الضربة القاضية، فانكسر كتفي وذراعي. عشتُ 40 يومًا وأنا على هذه الحالة. في البداية، كنتُ آكل الطيور التي عملت أعشاشها في الصهريج، ولكنّها سرعان ما غادرته حين صارت الرائحة المنبعثة من الجثث لا تُطاق. ثمّ بدأتُ أمتصُّ دماء الجثث، والقليل من الماء الذي وجدته في حفرة في الداخل. تمّ خلاصي على يد الحاج خليل بوم الذي كنتُ قد أسديتُ له بعض الخدمات حين كان في الحبس. ما أن علم بوجودي هنا حتّى قصد الشيخ، وحصل لي على إذن الخلاص، وسحبني من الصهريج، وأخذني إلى بيته.

لم أكن في قافلة المطران مالويان. بعد تحريري من الصهريج، صرتُ راعيًا، فتوجّهتُ إلى المكان الذي تمّت فيه المجزرة حيث التقيتُ امرأة اسمها نظيرة لولي ميخو، المتزوّجة من مسلم، تعيش في مكان قريب من المكان الذي أعطى فيه المطران مالويان المناولة إلى رفاقه.

أخبرتني بأنّها شاهدت، بأمّ العين، نورًا ساطعًا ينزل إلى المكان نفسه أثناء المناولة. فضلاً عن ذلك، إنّ جميع الجنود الذين رافقوا القافلة يقرّون بتلك الظاهرة، وأكدّه رئيس القافلة، الرقيب نوري.

وفي هذا الصدد، أذكر أنّه بعد وفاة المطران مالويان بتسعة أشهر، ضربت المدينة عاصفة قويّة أدّت إلى تدحرج صخرة كبيرة من الجبل، وسقوطها على منزل الرقيب نوري، ما أسفر عن مقتل جميع القاطنين فيه، ما عدا امرأة أرمنيّة كان اختارها نوري من القافلة لتصبح زوجة له. وفي تلك الليلة، خرجت بابنتها إلى بيت الخلاء الخارجي، وذلك بضع دقائق قبل سقوط الصخرة وحصول الكارثة.
هذا كلّ ما أعرفه عن ذلك الموضوع، وشهادتي صحيحة.

بيروت، في 19 كانون الثاني 1950

رابعًا: الشهيدات الأرمنيّات

تميّزت نساء ماردين الأرمنيّات الكاثوليكيّات، على غرار أزواجهنّ وأولادهنّ، بقدرتهنّ على احتمال العذابات اللاإنسانيّة بشكل بطولي، وبالمثابرة على الحفاظ على إيمانهنّ وشرفهنّ بكلّ شجاعة، من دون أن يمسّهما أحد، وذلك حتّى الموت. ولاقى هذا الموقف، الجدير بالمسيحيّات الحقيقيّات، دهشة لدى الأعداء الذين قاموا بأبشع الانتهاكات بحقّهنّ، وبحقّ أولادهنّ الذين قتلوهم، وقطعوهم إربًا إربًا، أمام أعينهنّ في معظم الأحيان. إنّ هؤلاء الوحوش ذوو الوجوه البشريّة، بعد أن صبّوا نزواتهم الهمجيّة على تلك الضحايا البريئات، لم يكتفوا بنهبهنّ، ونزع الحلى عنهنّ، والاستيلاء على المال الذي كان بحوزة هؤلاء السيّدات النبيلات، بل جرّدوهم من ملابسهنّ، وعرّضوهنّ لأقبح الممارسات المؤسفة، وذلك قبل الإجهاز عليهنّ. وهم لم يكتفوا بإشباع شهواتهم الحيوانيّة من الأحياء، بل قاموا حتّى بتدنيس جثثهنّ. يُشير الخوراسقف أحمرانيان إلى هذا الأمر، وينقل فيما يلي ما سمعه بلسان شهود عيان جديرين بالثقة:

- ليل الخميس 15 تموز، هرع الجنود إلى بيوت أكبر الأغنياء في المدينة. وكان بيت عائلة جينانجي، الواقع بالقرب من كنيسة السريان الكاثوليك، البيت الأوّل الذي قاموا بتطويقه. أَعلَموا السيّدة شمّي [شمونه] زوجة نعوم جينانجي بوجوب الاستعداد للرحيل مع بناتها. تأثر جميع أفراد الأسرة لهذا الأمر المحزن، فركعوا وصلّوا وتوسّلوا العون والمساعدة من الله. رآهم المطران جبرائيل تبوني، رئيس أساقفة السريان الكاثوليك، من خلال النافذة، فباركهم وشجّعهم على الثبات في جهادهم المقدّس، حتّى الموت.

- انتقل الأعداء من بيت عائلة جينانجي إلى بيت عائلة شلمّي وعائلة بوغوص. أُصيبوا بدهشة كبيرة حين رأوا النساء والفتيان والفتيات مرتدين الملابس البيضاء، وحاملين الشموع المضاءة، ينزلون الدرج كما لو كانوا في طريقهم لحضور حفل زفاف أو احتفال في الكنيسة. إنّه موكب العذارى الحكيمات الذاهبات لملاقاة العريس السماوي.

- ثمّ توجّهوا إلى منزل عائلة كَسبو، وأخرجوا جميع الموجودين فيه، من دون استثناء. وهكذا جابوا جميع بيوت الأرمن الأغنياء، وألقوا القبض على القاطنين فيها، كبارًا وصغارًا، ووضعوا الأختام على الأبواب بغية العودة إليها لاحقًا والاستيلاء على المغانم: الممتلكات والأثاث والتجهيزات والسجاد وغيرها، وتوزيعها على القضاة والضباط ورؤساء المكاتب.

- صباح يوم الجمعة الواقع فيه 16 تموز، اقتيدت النساء حاملات الرضّع، والمحاطات بأولادهنّ الصغار إلى تلّ أرمن. في اليوم التالي، غادرت القافلة تلك القرية المسيحيّة إلى قرية عبد الإمام الواقعة عند مكان ضيّق يجري فيه نهر الزرقان. في هذه القافلة المؤلّفة من النساء والأولاد، كان أيضًا بطرس جينانجي، وشكري كَسبو، وفتح الله شلمّي، وبولس مخولي، وبوغوص، وابن نعوم جينانجي، والأب أوهانس بوطوريان، قُتلوا كلّهم في تلك القرية السابق ذكرها. وبعد أن جرّدوا النساء من ثيابهنّ، نقلوهنّ إلى الوادي بالعربات، مجموعة تلو الأخرى، حيث تمّ قتلهنّ أو حرقهنّ أو إطلاق النار عليهنّ. أمّا الأكراد، فكانوا يخطفون الرضّع والأولاد من أمهاتهم.

- من بين النساء البطلات، نُشير إلى السيّدة روزا، زوجة شفيق آدم، التي صرخت في وجه الجلاّدين قائلة لهم: «لماذا تسمحون للأكراد بخطف الرضّع؟ أمّنوا الحماية لنا أو اقتلونا لنتخلّص منكم ومنهم».

- أراد الشيخ طاهر الأنصاري اغتصاب زوجة فتح الله شلمّي، لكنّها صدّته بسخط، فقتلها هذا الوحش على الفور.

- في 17 حزيران 1915، اقتيدت قوافل من النساء الشابات اللابسات القمصان، في مجموعات قليلة العدد، إلى سوريا وحدود الحجاز، إلى الطفيلية وغيرها من الأماكن، حيث أُطلقت النار عليهنّ.

- خُصّص 26 و 31 تموز للقوافل المؤلّفة من النساء الكبيرات في السنّ والرضّع، اقتيدوا إلى شدادي [مدينة سوريّة تقع جنوب مدينة الحسكه]، وكان معهم عائلات بابيكيان وغارابيديان وحنجو الذين قُتلوا ورُميت جثثهم في آبار تْوا.

وهكذا أُفرغت ماردين من الأرمن، ولم يبق فيها سوى عدد قليل جدًّا نجا من الملاحقة عن طريق الصدفة. لجأ عدد لا بأس به إلى جبال سنجار حيث رحّب بهم زعيم القبيلة، حامو شرّو، ولاقوا عنده كلّ عطف. وبفضل عنايته، تمكّن هؤلاء البقايا من الماردينيين بالنجاة من المجازر، والعودة إلى مسقط رأسهم بعد الهدنة.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل التالي

عبدو بِزر

عبدو بِزر

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013