مسيرة التطويب
Cross

من أجل يسوع المسيح

 

الأب ليونار ورفاقه يبذلون حياتهم حبًّا بيسوع المسيح، وأمانة للكنيسة الكاثوليكيّة المقدّسة

1- الأدلّة على الاستشهاد
سوف نبرهن بأنّ الأتراك قاموا بقتل الأب ليونار وجميع المسيحيين الأرمن والكلدان والسريان الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت كرهًا بإيمانهم المسيحي، وليس لأيّ سبب سياسيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ آخر.
نبدأ بما جمعه المطران نازليان من أدلّة تثبّت هذا الرأي. نظرًا لكثرتها، سنكتفي بنقل البعض منها:

• يعتقد قسم كبير في جمعيّة الأتراك الفتيان بأنّ الإمبراطوريّة التركيّة يجب أن تقوم على أسس إسلاميّة وقوميّة تركيّة خالصة. وبالتالي، يجب أسلمة المواطنين غير المسلمين وغير الأتراك بالقوّة، وإجبارهم على أن يصبحوا مواطنين أتراكًا. وإن لم يكن ذلك ممكنًا، يجب إبادتهم. إنّ الظروف الحاليّة هي مؤاتية لهؤلاء الأشخاص كي ينفّذوا هذه الخطّة، بدءًا بتصفية الأرمن. 1
• وليس الأمر أقل من تدمير شعب بأكمله أو أسلمته بالقوّة. 2
• قام لِبسيوس، المحقّق الدقيق الذي كان أوّل مَن تجرأ على جمع المعلومات عن المجازر، بوصف النيّة السيئة لدى الأتراك، وقال: «إنّ معرفة ما إذا كان أرمنيٌّ ما مذنبًا أم لا، وإذا كانت هناك شكوك حول قيامه بجرائم ضدّ الدولة، وإذا صدرت بحقّه أحكام من محكمة عادية، لا وجود لها في ضمير أيّ محمديّ». 3

يعبّر الأب جاك ريتوريه عن هذا الأمر بشكل واضح وقاطع فيقول:
«لقد سبق ونوّهنا بأنّ هذا الاضطهاد لم يكن فقط لدواعٍ سياسيّة، إنّما أيضًا لأسباب دينيّة. والدليل على ذلك، مرّة أخرى، ما حصل في سجون ماردين. حَدَّثنا بعض مَن نجا من السجناء الذين هم الآن بعنايتنا، أنّ حرّاسهم كانوا ينزعون عنهم بوحشيّة كلّ شارة دينيّة ظاهرة، ويلقون بها على الأرض، ويطأونها تحت أقدامهم وهم يكفرون. لا بل كانوا يصلبون البعض منهم، للاستهزاء والسخرية، من دون أن يُهملوا أيّ تفصيل في عمليّة الصلب، لدرجة القول بأنّ هؤلاء الكفّار قد درسوا الإنجيل من قبل. قام الجنود بتفتيش كاهن أرمنيّ كاثوليكيّ من أنقره، طاعنًا في السنّ، كان في إحدى القوافل، علّهم يعثرون على شيء من النقود، فلم يجدوا سوى صليبًا نحاسيًّا معلّقًا في عنقه، فلاموه بقولهم: كيف لك وأنت بهذا العمر أن تتعلّق بمثل هذه الأشياء؟ فأجابهم: نعم، وإنّنا من أجل هذا الشيء نسفك دماءنا. قتلوه عند سماعهم منه هذا الجواب.» 4

2- نظرة إلى وسائل القتل المعتمدة

اتَّخذت الحكومة المركزية قرارًا يقضي بإبادة المسيحيين. لماذا اتُخذ هذا القرار، وكيف سيتمّ تطبيقه؟ نقدّم، فيما يلي، التحليل الوارد في قاموس الكنيسة التاريخي والجغرافي:

سرعان ما عاد العثمانيّون إلى تطبيق البرنامج التقليدي:

أ- إخضاع الجنسيات الأخرى إلى العرق التركي.

ب- هيمنة الإسلام المطلقة على جميع العناصر غير المسلمة.

وبكلمة واحدة: بسط القوميّة التركيّة تحت مظاهر الوحدة الإسلاميّة. بما أنّ المسيحيين، بدءًا بالأرمن، لا يمكن جمعهم مع المسلمين، كان لا بدّ من إبادتهم، بخاصّة بعد أن طلبوا مساعدة القوى العظمى المسيحيّة ضدّ تركيا.

ولكن، إذا اعتقدت بعض الضمائر العديمة الذمّة أنّ من حقّها التضحية ببضعة آلاف من الرجال المحرّضين، من دون محاكمتهم، فبأيّ صفة يُضاف إليهم مئات الآلاف من النساء والأطفال وكبار السن، وأشخاص لم يسيئوا إلى أحد قط؟ هتف أحد الضباط وقال: «لا يهمّ، سبق نبيّنا محمد وأجاب أحد المسلمين الذي أثار الاعتراض نفسه، وقال له: إذا لسعك برغوث ما، ألا تقتل جميع البراغيث؟»

قال وزير الداخليّة طلعت بك، صاحب النفوذ القويّ، والمخطط الرئيسي للمجازر الأخيرة، بوقاحة مغلّفة: «لا توفّروا الأطفال الصغار، لأنّهم عندما يكبرون، يمكن أن يصبحوا ثوارًا. إجمعوا فقط اليتامى الذين لا يتذكرون». بالواقع، اقتصرت المجازر على الرجال. أمّا النساء والأطفال فكانوا يُرحَّلون أو يخضعون لنظام الإسلام. 5

3- الإسلام بالقوّة

إنّ العرض القائم على اعتناق الإسلام مقابل البقاء على قيد الحياة قُدّم إلى الأب ليونار عدّة مرات، ويأتي هذا العرض بمثابة لازمة يُقدّم إلى جميع المسيحيين قبل القضاء عليهم. لن نعرض الدراسات المستفيضة التي تثبّت عزم الأتراك على التخلّص من الوجود المسيحي عندهم، في حال لم يعتنق المسيحيّون الإسلام. سوف نكتفي ببعض ما جاء على لسان الشهود في دعوى تطويب المطران مالويان، بالإضافة إلى بعض النصوص الأخرى:

•  شهادة الكردينال إغناطيوس جبرائيل تبوني، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان

تمثال نصفي للمطران اغناطيوس مالويان يعلو شاهدة تذكاريّة له في دير بزمار للأرمن الكاثوليك في لبنان
تمثال نصفي للمطران اغناطيوس مالويان يعلو شاهدة تذكاريّة له في دير بزمار للأرمن الكاثوليك في لبنان

س: بالاستقلال عن منصبكم، هل ترى نيافتكم أنّ حالة المطران مالويان هي حالة شهيد؟
ج: بالتأكيد، وفي رأيي، هو حالة جميع الذين قُتلوا من سكان ماردين. وكان الآباء الدومينيكان، الأب بِرّيه، رئيس إرساليّة الموصل، والأب ريتوريه، والأب سيمون، الذين كانوا عندي بعد تهجيرهم من الموصل، لم يكفّوا عن القول بأنّ ماردين هي مدينة الشهداء. وهم كانوا شهودًا على جميع المجازر التي حصلت في ماردين وضواحيها.

ودعمًا لما أقول، فإنّ بعض العائلات المسيحيّة التي أغرتها نداءات المسلمين لتتخذ من الإسلام دينًا لها، مقابل بقائها على قيد الحياة، قد جحدت بالفعل، وأنقذت نفسها، وصار لديها مراعاة خاصّة عند المسلمين. لكنّ عدد تلك العائلات لم يتعدّى الثلاثة أو الأربعة، وهي تابت بعد الحرب، وعادت إلى الإيمان. تشكّل هذه الحقيقة وحدها دليلاً كافيًا على أنّ الذين ماتوا ضحّوا بحياتهم ليبقوا أَوفياء لإيمانهم المسيحي، وهذا يشمل جميع الكاثوليك في ماردين، مهما كانت طائفتهم.

شهادة المطران جوزف رباني، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان

س: هل سمعتَ بأنّه عُرض عليهم اعتناق الإسلام مقابل إنقاذهم من الموت؟

شاهدة تذكاريّة عن المطران الطوباوي اغناطيوس مالويان في دير بزمار للأرمن الكاثوليك في لبنان
شاهدة تذكاريّة عن المطران الطوباوي اغناطيوس مالويان في دير بزمار للأرمن الكاثوليك في لبنان

ج: أنا لم أسمع شيئًا من هذا القبيل. ومع ذلك، حتى لو قيل بأنّ قتل هؤلاء الأشخاص جاء لأسباب سياسيّة، لا يمكن استبعاد الأسباب الدينيّة. فإذا كان قتل الأرمن لسبب سياسيّ، فهو أيضًا بسبب دينهم المسيحي، إذ هناك آخرون غير أرمن قُتلوا معهم، كالسريان والكلدان الذين لاقوا حتفهم لأنّهم مسيحيّون فقط.

س: هل ماتوا من أجل المسيح وبسبب ثباتهم على إيمانهم المسيحي؟
ج: لا نعرف إذا ما عُرض عليهم إنكار المسيح أو الإيمان المسيحي، لكنّ هؤلاء الضحايا كانوا يعرفون بأنّهم سيُقتلون بسبب إيمانهم المسيحي، وقد أقبلوا على الموت بطيبة خاطر.

س: بعد وفاة المطران مالويان، هل سمعتَ بظواهر عجيبة ترافقت مع موته؟
ج: لم أسمع أي شيء محدّد، لكنّ رأي المسيحيين العامّ هو أنّ المطران ورفاقه ماتوا شهداء.

شهادة الياس جرجي نصري نزار، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
أذكر أنّه عندما أخرجونا من السجن ليقودونا إلى زنّار، كان الحرّاس يقولون لنا: «بدّلوا أسماءكم بأسماء إسلاميّة، واتخذوا الإسلام دينًا لكم، فتخلصون». فأجبتهم: «كيف هذا! لقد قتلتم والدي ووالدتي وأنتم تقترحون عليّ الآن أن أصبح مسلمًا؟ لن يكون هذا أبدًا».

شهادة فريده منغالو غندوره، الشاهدة في دعوى تطويب المطران مالويان
س: هل طُلب منهم إنكار إيمانهم المسيحي؟
ج: نعم، إذ قيل لهم: «صيروا مسلمين، ونحن نخلّصكم». فكانوا يجيبون: «اليوم هو يوم المسيح، عذّبونا ما شئتم».
س: ما كان الرأي العامّ بعد هذه المجزرة؟ ما كان قول الناس الذين نجوا؟
ج: قال الناس إنّهم ماتوا لكي يبقوا ثابتين في إيمانهم المسيحي، من دون أن ينكروا المسيح.

رواية خليل مكي ومسلمون آخرون، بلسان صوفيه يوني، الشاهدة في دعوى تطويب المطران مالويان
في العام 1915 كنتُ في ڤيرانشهر حين قال المدعو مَكّي خليل إلى زوجي الأوّل فرج الله رخطوان: «إذا اعتنقتَ وعائلتك الإسلام، سأخلّصك من الموت». لم يقبل أحد منّا هذا العرض.
كان زوجي الأوّل يعمل أمين الصندوق لدى الحكومة. فقام مسلمون آخرون وعرضوا عليه وعلى عائلته العرض نفسه الذي رفضناه. ثمّ ألقى رجال الشرطة القبض على زوجي ومسيحيين آخرين، واقتادوهم إلى قرية حفضماري حيث قتلوهم كلّهم.
في تلك الأيّام، أيضًا، جمع رجال الشرطة حوالي أربعمائة وخمسين مسيحيًّا، وكان أبي حبيب يوني معهم. وقد قال لي بعض المسلمين لاحقًا، أنّ رئيس الحكومة عرض على والدي اعتناق الإسلام لإنقاذه من الموت، لكنّه رفض ذلك، فتمّ قتله مع الآخرين.
إنّ الأب إسحق هولوزو، كاهن رعيّتنا في ڤيرانشهر، اقتاده رجال الشرطة إلى خا. هناك، عرضت عليه السلطة المدنيّة اعتناق الإسلام ليخلص من الموت، لكنّه رفض ذلك وقُتل، كما أخبرني بعض المسلمين.
وسمعتُ أيضًا من بعض المسلمين أنّهم عرضوا على حنا كخوا وأخته مريم، وهما من الأرمن الكاثوليك، أن يعتنقا الإسلام، لكنّهما رفضا، فتمّ قتلهما مع الشهداء الآخرين.

رواية الجلاّد حموده، بلسان زكية توماجيان، الشاهدة في دعوى تطويب المطران مالويان
س: ماذا تعرفين عن سعيد ويوسف وكركور؟
ج: كانوا الثلاثة معًا في قافلة المبعدين. عندما رأتهم والدتي، ركضت وراء القافلة وصرخت بهم، فأجابوها: «يا أختنا، اذهبي، اذهبي بعيدًا، فإنّ هذه الدنيا لا قيمة لها، وقريبًا سنحصل على إكليل المجد». قتلهم المدعو حمودة الذي ما أن عاد دخل بيتنا، وقال لوالدي: «لقد تعبنا كثيرًا في قتل هؤلاء الكفّار، هيّا قدّم لي الطعام». رفضت والدتي الانصياع لأمره، لكنّ والدي أصرّ، وقال لها: «أعدّوا له الأكل، لمجد الله». وفيما كان يأكل، كانت أمّي تبكي إخوتها.

س: ماذا تعرفين عن عمسيح كركو؟
ج: كان جنديًّا في أرضرّوم تحت إمرة ملازم. عندما أُعطيت الأوامر للقبض على الأرمن وقتلهم، عرض عليه الملازم أن يصبح مسلمًا، فرفض وقال له: «أعيشُ وأموتُ على دين المسيح». فأطلق النار عليه. أخبرني بالأمر ابن عمّه فَرجو الذي كان جنديًّا مثله، لكنّه قَبِل الإسلام وأنقذ نفسه.

رواية الجندي باشو السرّاج، بلسان توفيق كيسو، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
وبعد عشرة أيّام، جاء إلى منزلنا المدعو باشو السرّاج، لابسًا لباس العسكر، وكان عاملاً مبتدءًا عند والدي. قال لنا سِرًّا بأنّه كان في عداد الجنود «الخمسين» الذين قادوا المطران مالويان ورفاقه إلى خارج ماردين. ثمّ سمعته يقول لوالدي ما يلي:
«لقد ربطنا المسيحيين كلّ أربعة منهم مع بعضهم البعض، ووضعنا أطواقًا ثقيلة من الحديد حول عنق المطران والأعيان، واقتدناهم إلى خارج ماردين، باتجاه ديار بكر، إلى المكان المسمّى أدريشيك، بالقرب من شيخان. ثمّ جمعنا أكراد المحلّة لمساعدتنا على قتل كلّ هؤلاء الناس. وتوجّه رئيس الشرطة مرّة أخرى إلى المطران مالويان وعرض عليه نكران ديانته واعتناق الإسلام، فيتمّ تسميته إمامًا. رفض المطران هذا العرض، وقال إنّه مستعد للموت من أجل دين المسيح. ثمّ طلب رئيس الأساقفة الإذن لتوجيه كلمة إلى أبناء رعيّته. أُعطي الإذن فقال: “نحن مدعوون اليوم إلى العرس عند المسيح، وبعد ساعة سنكون على الطاولة”. ثمّ طلب خبزًا، فأُعطي له، وصلّى عليه، وأعطى منه إلى كلّ واحد من رفاقه. ثمّ قال لرئيس الشرطة: “لقد انتهيت”. عندئذ بدأنا بقتل جميع المسيحيين الموجودين هنا. ولَـمّــا جاء دور الأسقف، كُسرت له كتفه، وطُلب منه التنكر لدينه، فرفض. كُسرت له كتفه الثانية، وكُرِّر عليه الطلب نفسه، فبقي ثابتًا في إيمانه. عندئذ تمّ قتله فيما كان يردّد: “أعيش وأموت على دين المسيح”».

رواية الجلاّد نوري، بلسان جميل سيوفي، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
س: كيف كان الاستشهاد؟
ج: أخبرني المدعو نوري، وهو الذي قتل المطران مالويان، عن العذابات التي أذاقه إيّاها، فقال: «تلقيتُ الأمر من ممدوح بك وهارون بك، بعد أن تلقَّيا الأمر من السلطان رشاد، بإبعاد الأرمن من ماردين. لكنّ هارون وممدوح أمراني بقتل الذين تمّ إبعادهم لأنّهم من المسيحيين الكفّار. قمتُ بتهجير المطران مالويان وأكثر من ماية رجل من رعيّته إلى قلعة زرزوان. عند وصولنا إلى هناك، طلب مني الأسقف أن أمنحه نصف ساعة من الوقت للصلاة، فقبلت. عندئذ، أخذ خبزًا، وصلّى عليه، ووزَّعه على الذين كانوا معه، وقال لهم: نحن ذاهبون إلى العرس مع المسيح، كونوا أقوياء في إيمانكم. ثمّ التفتَ إليّ وقال: إفعل ما تشاء. فأَعطيتُ الأمر بقتلهم كلّهم. بَقيتُ على الأسقف، وعرضتُ عليه اعتناق الإسلام مقابل إبقائه على قيد الحياة، فرفض وقال: لقد عشتُ في دين المسيح ولن أُغيّر الآن، إفعل ما تريد. عندئذ، أطلقتُ عليه خمس وعشرين رصاصة.»

رواية الشرطي شيخ باشو، بلسان مخايل غندوره، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
سقط المطران مالويان على الأرض، ينوء تحت ثقل السلاسل التي وُضعت له ورفاقه، في أيديهم وأرجلهم، والطوق حول رقابهم. ضربه شرطيٌّ على جنبه، وقال له : «ألا كان من الأفضل لك أن تُصبح مسلمًا وتُخلّص نفسك من هذه الحالة؟ لكُنّا نصَّبناك إمامًا». حَدَّق المطران في وجهه، وأجابه بازدراء: «نحن خراف المسيح، والأحمر الذي نرتديه ما هو إلاّ علامة على استعدادنا لسكب دمائنا في سبيل المسيح».

رواية الجنديّين أرصو راشك وحسن عليقي، بلسان ورده كتمرجي، الشاهدة في دعوى تطويب المطران مالويان
أثناء مدّة تعذيبهم، عُرض عليهم إنكار إيمانهم واعتناق الإسلام، لكنّهم رفضوا العرض رفضًا قاطعًا… قبل قتلهم في شيخان، عرضوا عليهم إنكار إيمانهم المسيحي، فقالوا لهم: «نريد أن نعيش ونموت محافظين على إيماننا المسيحي، ونحن نقبل كلّ ما يأتي من السماء».

رواية المسلم حسن مادي، بلسان الياس باريش، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
أذكر أنّنا كنّا نقطن منزل المسلم المدعو حسن مادي في ماردين الذي طلب من أبي يوسف أن يعطيه أختي زوجة له، مقابل إنقاذنا من التهجير والموت. أجاب والدي التّقي وقال له: «أَفضل لي أن أرى أولادي قطعًا أمامي من أن أُوافق على جريمة كهذه».
وفي نهاية شهر حزيران، أو أوائل شهر تموز من العام 1915، قامت الميليشيا بإخراج خمسماية مسيحيّ من ماردين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وكنّا نحن، مَن بقي من أسرتنا على قيد الحياة، من عداد الخارجين. قَتلوا عددًا كبيرًا منّا، بالقرب من رأس العين، وأَبقوا على الفتيات والأطفال. وأذكر العراك الذي حصل بين ثلاثة أكراد بغية خطف أختي بهية، البالغة من العمر ثلاثة عشر. قُتل اثنان منهم، وعندما أراد الثالث خطفها، رفضت طلبه، وقالت: «أعيش وأموت في سبيل دين المسيح». عندئذ طعنها الكردي بخنجره، وسقطت ميتة من أجل المسيح.

رواية جندي تْشيتي، بلسان داود نجار، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
وأذكر أنّ أحد الجنود التْشيتي [الميليشيا المسؤولة عن قتل المسيحيين] أَخبرني، في العام 1916، ما يلي: كان الجنود ينفردون بالأرمن، ويقتلونهم مجموعة تلو الأخرى. وكان بين هؤلاء الأرمن فتاة جميلة أراد قائد الجند اتخاذها زوجة له، مقابل إنقاذها من الموت. ما أن كاشفها بالأمر حتّى قالت له بأنّها تفضّل الموت من أجل المسيح على أن تقوم بعمل كهذا. أراد خطفها بالقوّة، لكنّها تمكّنت من الفرار بشجاعة، ورمت نفسها في بئر سبقها إليه ضحايا أخرون. فما كان من الجندي الجدجن إلاّ أن أطلق عليها رصاصة وقتلها.

رواية الجنديّين أحمد قاصو راشك وشيخ باشو، بلسان جبرائيل بدروس، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
كانت التحضيرات جاهزة لسوق المطران مالويان ومَن معه إلى مكان العذاب، بالقرب من قلعة زرزوان، الواقعة في منتصف الطريق بين ماردين وديار بكر. عند وصولهم هناك، طلب الأسقف من الجنود السماح له للتكلّم مع المؤمنين، وبدأ يُشجّعهم على الموت في سبيل المسيح. أُعطي خبزًا كرّسه ووزّعه على رفاق الدرب.
أُخبرنا بهذه الأمور من الجلاّدين الذين كانوا يرافقون القافلة، أحدهم اسمه أحمد قاصو راشك، وآخر اسمه شيخ باشو. سمعتهم مرّة يقولون: «تساءلنا أين اختفى هؤلاء الناس»، وفجأة سمعنا صوتًا يقول: «نحن هنا، نصلّي».
س: هل عُرض على المطران مالويان ورفاقه إنكار إيمانهم المسيحي؟
ج: نعم، بخاصّة على الأسقف، حتى أنّهم قالوا عنه بأنّه عنيد. لقد قتلوا جميع الكهنة والمؤمنين، ثمّ الأسقف، وألقوا جثثهم في البئر.

رواية الشرطي نوري والكردي عثمان، بلسان الياس بيدو، الشاهد في دعوى تطويب المطران مالويان
لقد تمّ نفيي بالفعل، لكنّني عدتُ إلى ماردين بعد ثلاثة أشهر، في كانون الاوّل من العام 1915. تركوني بسبب مهنتي في مقلع الحجارة، وهم بحاجة إلى أناس من هذه المهنة، ما مكنني التواصل مع أناس كثيرين، بينهم مسلمون، كانوا شهودَ عيان للمجازر التي حصلت، أحدهم الشرطي المدعو نوري الذي قام بتعذيب المطران مالويان بشكل كبير، أثناء وجوده في الحبس، وكان يضربه باستمرار لإجباره على الاعتراف بالمكان الذي خبأ فيه الأسلحة. وكان المطران مالويان يقول له بأنّه لا أسلحة عنده، ويسأله لماذا يعامله على هذا النحو قائلاً له: «ألا تخاف الله؟»
… سمعتُ تفاصيل كثيرة عن الذي جرى أثناء عمليّات الترحيل، وعن المذابح التي ترافقت معها. في العام 1927 كنتُ أعمل في قنيابين بالقرب من قلعة زرزوان حيث تعرّفتُ على أحد الأكراد اسمه عثمان، على ما أذكر. وفي يوم من الأيّام، فيما كنّا نرتاح، تطلَّع إلى تلّة قلعة زرزوان وقال لي: «لو كنتَ تعرف ما حدث هناك، حين أخذنا المطران مالويان ورفاقه وقتلناهم. حين علم المطران مالويان بأنّنا على وشك قتله، طلب منا سوق القافلة بعيدًا عن الطريق الرئيسيّة حيث قام بتحريض رفاقه وتشجيعهم بالقول: "هذا هو يوم الربّ". ثمّ أخذ خبزًا وبارك وأعطى رفاقه. وفي تلك اللحظة، ظللتنا سحابة غيم، ورأينا أنوارًا ما أن خفتت حتّى توجّه المطران إلى رفاقه وقال لهم: "كونوا أقوياء، إنّ الله معنا". وكنّا نجمعهم في مجموعات ونقتلهم. لاقى المطران مالويان التعذيب الفظيع، فسقط على الأرض، ثمّ قُضي عليه بطلقة رصاصة.»

س: هل ماتوا من أجل إيمانهم بالمسيح؟
ج: بالتأكيد، لأنّهم لو نكروا هذا الإيمان لكانوا نجوا.

س: هل عُرض عليهم نكران إيمانهم قبل قتلهم؟
ج: سمعتُ من الأكراد الذين رافقوهم بأنّ عرضًا كهذا قُدِّم لهم لكنّهم رفضوه.

مجموعة شهادات نقلها الأب جاك ريتوريه

إلى الشهادات السابقة، نُضيف بعض ما نقله الأب جاك ريتوريه :

– لَمّا طُلب من الريّس بِرّو، أحد زعماء اليعاقبة، الانتقال إلى الإسلام لينقذ نفسه وجماعته أجاب بأنّ المسيح لم يُسئ إليه مطلقًا، وأنّه لا يُفكّر في التخلّي عنه الآن. قُتل على الفور. 6

– إنّ إحدى قريبات المطران مالويان التي نجت من المجزرة قالت ما يلي: عرضوا الإسلام على النساء، عملاً بما يفرضه الدين على المسلم الغيور، قبل الشروع في قتل الكافر العنيد، أو التصرّف بالضحيّة على هواه إن لم يذبحها. بالطبع، إنّ جميع السيّدات الأسيرات في القافلة رفضن العرض في اعتناق الإسلام، عندئذ بدأت المجزرة الرهيبة. 7

– كانت مارو تبيك في إحدى القافلات حين تقدّم منها أحد الجنود وقال لها: «أعلني إسلامك فستكونين لنا وتخلصين». أجابت مارو: «أبدًا، لن أقبل بالإسلام دينًا، وأرفض أن أصبح ملكًا لكم»… عندئذ دنا أحد الجنود ليأخذها عنوة، وقبل أن يمسك بها ألقت بنفسها في البئر وهي تقول: «مستحيل أن تنالوا منّي». وحين لم يتمكنوا من إشباع شهواتهم منها، أطلقوا النار عليها، ولفظت أنفاسها الأخيرة فوق ركام الجثث في البئر. 8

– نجت إحدى نساء ماردين من المجزرة، ووقعت بين أيدي أحد المسلمين النافذين الذي عرض عليها بأن تكون زوجة له فأجابت: «لقد وعدتُ زوجي أمام الله، ولا يمكنني النكث به… لا يمكنني الارتباط بأيّ وثاق زواج، هذه قوانين ديانتنا المسيحيّة، وسيعاقبني الله إن أنا خالفت إرادته». تحلّى السيّد بالصبر على أمل أنّها سترضخ حتمًا لإرادته إن عاجلاً أو آجلاً، لكنّ المسكينة تمكنت من الفرار. 9

– قصد الأكراد منزل خليل آغا للقضاء على بعض المسيحيين الذين لجأوا إليه، فقال لهم: «هؤلاء المحتمون في منزلي هم رجالي، فلا شأن لكم بهم». فأجابوه: «أقلّه أكرِهْهُم على اعتناق الإسلام». 10

– أُلقي القبض على أحد المسيحيين من قرية كولية وابنيه، وأودعوا في السجن. قال لهم مدير السجن: «إعتنقوا الإسلام وسنفرج عنكم، وإلاّ فستموتون». أجاب الوالد: «لا نشاء الموت، ولكن أن نعلن إسلامنا فذاك أمر مستحيل». تعرّضوا للتعذيب. 11

– إستُدعي الأب أوغسطين مرجاني، خادم رعيّة المنصوريه للكلدان، وأُبلغ بأنّ السلطان أصدر أوامره بذبح المسيحيين. أجاب الأب أوغسطين: «إسمحوا لي بالذهاب إلى أبناء رعيّتي لأكلّمهم، لعلّ فيهم مَن يرغب في اعتناق الإسلام». جمع الكاهن أبناء رعيّته في الكنيسة، وحثّهم على الصمود والمكوث أمناء للمسيح. بعد مدّة وجيزة، أقبل الأكراد تساندهم القوات الحكوميّة، وذبحوا معظم أبناء القرية، وفي مقدمتهم راعيهم. 12

– ذُبح الأب توما شيرين الكلداني، بعد أن قطعوا ذراعيه، وهشّموه بالحجارة، وعرضوا عليه الإسلام عن طريق نساء مستهترات. 13

– واجهت إحدى النساء الجميلات في قافلة آتية من أرضرّوم إغراء أحد الجنود الذي وعدها بإنقاذ حياتها إن هي قبلت بأن تكون له وأجابت: «ماذا؟ أنا أتبعك لأضحي مسلمة وأخسر الإكليل الذي كسبته رفيقاتي لدى سيّدنا يسوع المسيح. لا، أبدًا، لن أتخلّى عن هذا الإكليل». مني الجندي بالخيبة، فاستلّ خنجره وطعنها عدّة طعنات حتّى فاضت روحها الطاهرة. 14

– … في أوامر الإبادة أوصي، إلاّ في الحالات الاستثنائيّة، بعدم ذبح القاصرين، بل أسرهم، لغرض إدخالهم في الإسلام. 15

حالة جورج آدم في رواية القسّ اسحق أرملة
بين الروايات العديدة الواردة في كتابه، يروي الأب إسحق أرمله قصّة جورج آدم، الشاب الأرمني الثالثي الفرنسيسي الذي جُرّد من ثيابه، وصُبَّ عليه ماءٌ باردٌ حتّى جُمدت دماؤه في عروقه، ثمّ تعرّض للضرب بالسوط إلى أن يجاهر بالاسلاميّة، فكان يُجيب: «إنّي أحيا وأموت على إيمان المسيح». 16

تقرير الأب ماري دومينيك بِرّيه الدومينيكي
وكانت زمرُ الأكراد تنتظر الموكب، غير أنّي أحجم فيما يلي عن ذكر التفاصيل المروّعة التي زوّدتني بها إحدى الناجيات من العذابات التي قاستها هؤلاء الضحايا المسكينات. وقد رفضن جميعهنّ اعتناق الإسلام، باستثناء امرأة واحدة. ورُمِيَت الجثث في إهراءات وآبار فيما اختطف الأكراد بعض النساء وعددًا كبيرًا من الفتيات. 17

رواية الأب ياسنت سيمون الدومينيكي
أثناء هذه المأساة السريعة، كانت قافلة المسيحيين تُكمل طريقها، وقد عَرفت المصير الذي خُصِّص لها. وصلت شيخان، وهي قرية كرديّة تقع على مسافة ست ساعات من ماردين، حيث أَوقف ممدوح بك القافلة، وبدأ بقراءة فرمانًا إمبراطوريًّا مزعومًا، رُكِّب كالتالي: «إنّ الحكومة الإمبراطوريّة قد غمرتكم بإنعاماتها: حريّة، مساواة، أخوّة، عدل، وظائف هامّة، مراتب شرفيّة؛ ومع ذلك فقد خُنتموها. وبسبب خيانة الوطن العثماني فإنّ حكمًا بالموت قد صدر عليكم جميعًا. مَن منكم يُشهر إسلامه يعود إلى ماردين سالمًا مكرَّمًا. سيتمّ تنفيذ الإعدام فيكم بعد ساعة من الآن. تهيّأوا واتلوا صلاتكم الأخيرة…» ثمّ أضاف، جامعًا السخرية بالكذب: «لقد أعطتكم الإمبراطوريّة، في الماضي، ألف امتياز، وهي تعطيكم، اليوم، ثلاث رصاصات…»
عندها، انتصب سيادة المطران مالويان في وجه شتيمة الخيانة التي وُجِّهت إليه وإلى رفاقه، بالرغم من ضعف قلبه ووهن صحته، ينوء تحت ثقل التعب والحزن، وقام بالواجب الذي تمليه عليه أسقفيّته ومواطنيّته. بصفته الأسقفيّة، رفض الارتداد المقترَح، وبصفته الوطنيّة، أَكَّد إخلاصه لوطنه. وأجاب باسم الجميع، وبإجابته وَقَّع مرسومَ موته وموت رعيّته، لكنّه خَلّد اسمه وأعماله، واسم إخوته في يسوع المسيح وأعمالهم. قال الحبر:

– «نحن بين أيدي الحكومة، أمّا بالنسبة إلى الموت، فسنموت في سبيل يسوع المسيح…»

– «في سبيل يسوع المسيح»، ردّد رفاقه الأربعمئة والأربعة.

ثمّ أردف: «لم نكن قطّ خونة للأمّة العثمانيّة، ولسنا، اليوم، خونة لها. أمّا أن نصبح خونة للدين المسيحي، فذلك مستحيل…»

– «مستحيل»، أعاد رفاقُه الأربعمئة والأربعة القول.

وأضاف الأسقف أخيرًا: «سنموت، ولكنّنا سنموت في سبيل يسوع المسيح».

– «في سبيل يسوع المسيح»، كرّر رفاقُه الأربعمئة والأربعة. 18

رواية الآباء اليسوعيين
… يلقون القبض على الرجال السالمي البنية، وينقلونهم إلى المدينة المجاورة، كما قيل لنا، ويقتلونهم فيما هم سائرون على الطريق. هكذا مات أخونا جان باليان الذي بقي في القرى المحيطة بقيسارية، برفقة اثنين من الكهنة الأرمن الكاثوليك الذين كانوا يعاونوننا. قيل لي بأنّه عُرض عليهم الخلاص إذا وافقوا على اعتناق الإسلام، لكنّهم رفضوا العرض الذي أثار سخطهم، فتمّ قتلهم. إنّهم فعلاً شهداء.
وعلى سيرة الشهداء، إنّهم كثر، حتّى بين الأرمن الغريغوريين [الأرثوذكس]، غير الكاثوليك، وبنيّة صافية، على غرار ما حصل مع والد أحد تلامذتنا القدامى في مرسيفون ووالدته، الأباتي إندجيان الذي اهتدى وصار كاهنًا كاثوليكيًّا. هو نفسه أخبرني بقصّتهما.
كان لوالديه أصدقاء بين المسلمين يريدون إنقاذهما فقالوا لهما:

– هيّا قوموا بتسجيل أنفسكما مسلمين. إنّه مجرّد إجراء شكلي. تحافظون على قناعاتكم الدينيّة، ولن يُفرض عليكم الذهاب إلى المسجد. إنّه إجراء خارجي بحت، لكنّه ينقذكم من الهلاك.

– كلاّ، أجابا بشجاعة، نحن مسيحيون، ونريد الموت على هذه الحال.

فتمّ قتلهما. إنّهم الشهداء الأصيلون الذين ماتوا من أجل الإيمان.

شهادة مصطفى كمال أتاتورك

كان مصطفى كمال يتباهى بأنّه لم يلطّخ يديه بالدم أبدًا، ولم يلق المسؤوليّة إلاّ على عدد قليل من الأشخاص، لكنّه اعترف أمام المحكمة العسكريّة، في 28 كانون الثاني 1920، بما يلي:
جئتُ بكلّ طيبة خاطر، ولبيتُ دعوة هذه المحكمة التي شُكّلت بمرسوم امبراطوري. سوف يتفاجأ من حضوري أولئك الذين يعرفونني. إنّ الباشوات الذين ارتكبوا هذه الجرائم التي لا مثيل لها، والتي لا يُمكن تصوّرها، دفعوا البلاد إلى الوضع الحالي، ضمانة لمصالحهم الشخصيّة، وهم لا يزالون يثيرون المشاكل. أنشأوا كلّ أنواع الطغيان، وأشرفوا على عمليّات التهجير والمجازر، وأحرقوا الأطفال الرضّع بواسطة البترول، واغتصبوا النساء والفتيات تحت أنظار أهلهم المكبلين والمجروحين، وفصلوا البنات عن آبائهم وأمّهاتهم، وصادروا ممتلكاتهم الثابتة والمنقولة، ونفوهم حتّى إلى الموصل، وهم في حالة يُرثى لها، بعد أن مارسوا بحقّهم جميع أنواع العنف.
أركبوا الآلاف من الأبرياء في القوارب، وألقوهم في البحر. أعلنوا بواسطة المنادين عن وجوب كلّ مواطن غير مسلم ومخلص للحكومة العثمانيّة أن ينكر دينه ويعتنق الإسلام، وأجبروهم على هذا التحوّل. فرضوا السير على كبار السنّ لمدّة أشهر وهم يعانون من الجوع، وأخضعوهم للأعمال الشاقّة. قاموا بتسليم الشابات إلى بيوت الدعارة، ووضعوهنّ في ظروف مروعة وغير مسبوقة في تاريخ أيّ أمّة. 19

قاموس الكنيسة التاريخي والجغرافي
كانت تُعرض على الكثير من النساء، بخاصّة الجميلات والصغار السنّ منهنّ، طريقة تُجنّبهنّ المنفى، وهي اعتناق الإسلام، والزواج من مسلم على الفور. مَن كان لها أولاد وجب عليها تسليمهم إلى دور الأيتام الحكوميّة حيث ينشأون وفقًا لأصول الشريعة الإسلاميّة…
بعد اختطاف النساء وقتل الرجال، كان يُعرض عليهنّ، عدّة مرّات، اعتناق الإسلام…
شكَّلت الدعوة إلى الجحود إحدى خصائص الأحداث الدامية التي ذكرناها، و كانت، في كثير من الأحيان، تُفرض على الشخص غصبًا عنه. ويبدو أن جميع سكان أرابجير [محافظة ملاطية] انتقلوا إلى الإسلام، لفترة وجيزة. في أنقرة، وبمناسبة احتفال الأتراك بعيد ميلاد السلطان، قاموا بتنظيم احتفالات ختان لمئات الأطفال، معظمهم من الكاثوليك الذين نشأوا، رغمًا عنهم، في الديانة الإسلاميّة.
كان عرض المبادلة والانتقال من دينهم إلى الدين الإسلامي يُعرض بشكل خاصّ على النساء الصبايا. ما هو عدد اللواتي جحدن بطريقة غير مضمونة لإنقاذ أنفسهنّ، ومن دون أن يتجنبوا العار الذي لحق بهم؟ يقدّر ك. طاهمازيان عدد النساء المخطوفات بنحو 60،000. 20

4- بيان الدول العظمى
لقد أخذت الدهشة بالعالم المتحضر، واهتزّت المشاعر، ما دعا الدول العظمى إلى التدخل، وإصدار بيان من لندن، في 23 أيار 1915، موقَّعًا من فرنسا وبريطانيا وروسيا، جاء فيه:
لقد مضى شهر تقريبًا، على قيام السكان الأكراد والأتراك في أرمينيا، بقتل الأرمن، وذلك بالتواطؤ مع السلطات العثمانيّة، وبالمشاركة معها في معظم الأحيان. وقد جرت تلك المجازر في منتصف شهر نيسان في أرضروم، ترنجان، أَغين، بدليس، موش، سَمسون، زيتون، وفي كلّ أنحاء كيليكيا. قُتل السكان في مئة قرية واقعة في ضواحي مدينة وان، وحاصرت الجماعات الكرديّة الحيّ الأرمني.
في الوقت نفسه، قامت الحكومة العثمانيّة في القسطنطينية بإجراءات قمعيّة ضدّ الشعب المسالم.
إنّ حكومات الحلفاء تبلغ الباب العالي علنًا بأنّها تعدّ الحكومة العثمانيّة، بأعضائها وعملائها، مسؤولة عن تلك الجرائم الجديدة التي ارتكبتها تركيا ضدّ الإنسانية وضدّ الحضارة. 21

5- إحتجاج البابا بنديكتُس الخامس عشر
يعود إلى الحبر الأعظم بنديكتُس الخامس عشر شرف القيام بإسماع صوت العدل إلى الحكومة العثمانيّة. فوق أي مصلحة سياسيّة، مدفوعًا فقط بضميره الصافي، وبواجبه الأبوي تجاه المسيحيين، بعث برسالة إلى السلطان محمد الخامس، كتبها بخطّ يده، يذكّره فيها بواجبات ملكيته بأن يكون أبًا لجميع مواطنيه، ومسؤولاً عن المحافظة على حياتهم. كما ذكّره بواجبه الملزم باحترام العدالة المستقيمة والكاملة تجاه الأبرياء، ولو كان من حقّه أن يكون صارمًا تجاه المجرمين، وتطبيق العقاب عليهم، آخذًا بالاعتبار التوازن بين الخطأ المرتكب والعقاب المفروض. وأراد البابا القول إنّه من غير المعقول أن يكون كلّ الأرمن قد أصبحوا مذنبين في يوم واحد، وفي الوقت نفسه، فيما تفرض عليهم ديانتهم الإخلاص لجلالة السلطان وحكومته، وإنّ ذنبهم صار كبيرًا لدرجة أنّهم استحقّوا كلّهم، من دون أي تمييز في العمر أو الجنس، عمليّات الترحيل التي لم ترحم أحدًا، والمجازر التي تقع مسؤوليتها على رأس الأمبراطوريّة العثمانيّة.
لم يتمّ تسليم رسالة الأب الأقدس إلى السلطان إلاّ بعد فوات الأوان، لأنّها وقعت بين أيدي الأتراك الفتيان الذين قرأوا فيها كلامًا قاسيًا لا يستحقّ الجواب. وسلّم الأتراك مندوب البابا ملاحظات قاسية حول هذه الرسالة التي قالوا بأنّها تستند إلى معلومات خاطئة، أو أقلّه مبالغ فيها إلى حدّ كبير، مدافعين عن أنفسهم بالقول إنّه، في زمن الحرب، يصعب السيطرة على المناطق النائية من الأناضول. لكنّهم قدّموا بعض الوعود الغامضة لصالح الذين ما زالوا على قيد الحياة، يلتزمون بها في المستقبل.
لم تلاق هذه الوعود الغامضة ارتياحًا لدى الحبر الأعظم، لذلك رأى من واجبه التنديد، أمام الرأي العامّ العالمي، بجريمة إبادة شعب بأكمله، مشيرًا إلى هذا الأمر في كلمته أمام مجمع الكرادلة في 6 كانون الأوّل 1915، واصفًا إيّاه بالإساءة الفريدة من نوعها في هذه الحرب المستعرة. وفيما يلي بعض ما قاله البابا:
«بعد ستة عشر شهرًا، وعلى الرغم من تراكم الكوارث المثيرة للشفقة، ومن الرغبة المتزايدة للسلام في النفوس، ومن الصلوات الكثيرة لطلب السلام ترفعها العائلات بدموع حارّة، وفيما نحن لم نهمل أي أمر من شأنه التعجيل في إحلال السلام، وحلّ النزاعات القائمة، لا تزال هذه الحرب المدمّرة مستمرّة في البرّ والبحر، بالتزامن مع إبادة الأرمن المساكين بشكل شبه كامل. فليكن بعلمكم يا أيّها المتحاربون، أنّ شعبًا بأكمله اقتيد إلى الموت، فيما أنتم متعنتون في إطالة أمد هذا الصراع الدموي الذي يبقي طرق المواصلات كافّة مغلقة، وبالتالي يصعب مساعدة الضحايا المساكين، والتخفيف من حدّة الآلام عن طريق العلاجات التي تعرفونها جيّدًا». 22

6- شهداء من أجل يسوع المسيح وليس من أجل أيّ قضيّة سياسيّة أخرى

إلى أولئك الذين ما زالوا يعتقدون بأنّ المجازر حصلت لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة فقط، وبأنّ هدف الحكومة المركزية منها كان معاقبة الثوار الأرمن، وليس إبادة المسيحيين كلّهم، نطرح عليهم الأسئلة التالية:

أ- لماذا شملت عمليات القتل السريان الكاثوليك، واليعاقبة والكلدان الذين ليسوا من الأرمن؟ أليس لأنّهم مسيحيّون؟

ب- لماذا لم يتمّ نفي الأكراد الذين ليسوا من الأتراك، بل هم شعب مختلف لم يتوقف أبدًا عن المطالبة بالاستقلال، ويقوم بحرب بلا هوادة للتحرّر من النير التركي؟ ألم يتمّ الإبقاء عليهم لأنّهم مسلمون، وتمّ تسليحهم للقضاء على المسيحيين؟

ج- لماذا لم يتمّ إبادة الأقلية «اليزيدية» التي يُطلَق عليهم لقب «عباد الشيطان»؟ كان اليزيديّون أكثر إنسانيّة من عباد الله، وقدموا اللجوء إلى الهاربين من المسيحيين في جبال سنجار حيث هم موجودون؟

د- لماذا إلقاء القبض على مئات الآلاف من المواطنين وقتلهم، من دون استجواب، ولا محاكمة، ولا إبراز أيّ دليل جرمي ضدهم، أليس لأنّهم مسيحيّون فقط؟

هـ- لماذا عُرض على الجميع، بما فيه النساء، اعتناق الإسلام لإنقاذ حياتهم؟ وفي الواقع، جميع الذين رضخوا أمام التهديد أو التعذيب، على قلّتهم، والحمد لله، تمّ الإفراج عنهم؟

و- فيما يتعلّق بحجّة حيازة الأسلحة، ولو فرضنا أنّ بعض الأرمن كانت لديهم البنادق، لماذا لم يتمّ القاء القبض على المسلّحين فقط، بدل أن يتمّ مداهمة الجميع، وقتل الشيوخ والنساء والأطفال الرضّع؟

ز- لماذا لم يقلق المواطنون العرب في الأمبراطوريّة التركيّة حيث يشكّلون أغلبيّة السكان في العراق وسوريا وفلسطين ومصر؟ إنّ هؤلاء المواطنين ليسوا من الأتراك! وعلى الرغم من الكراهية والازدراء المزمن بحقّ العرب، لم تمسّ الحكومة المركزيّة بهم، أليس لأنّهم مسلمون؟ لم تتمكن تركيا من القضاء على مسيحيي جبل لبنان، أكان بقوّة السلاح أم بقوّة العدد، لذلك لجأت إلى القضاء عليهم بواسطة الحصار والجوع.

هناك أسئلة عديدة أخرى، لكنّ الجواب يبقى واحدًا: قُتل مَن قُتل لأنّه مسيحيّ فقط. كم وكم من المسيحيين قال كلمته الأخيرة أمام جلاّديه قبل قتله: «لن ننكر إيماننا المسيحي، وسنموت في سبيل المسيح». كان المحكومون يعرفون أنّه، لو قبلوا اعتناق الإسلام، ولو شكليًّا، لكانوا أنقذوا حياتهم. لكنّهم لم يفعلوا ذلك الأمر، ولذلك هم فعلاً شهداء. وينطبق الأمر بشكل خاصّ على الأب ليونار ورفاقه في القافلة الأولى والثانية (11 و 15 حزيران 1915).

لا يوجد أدنى شكّ حول هذه النقطة: إنّ الدافع الأساسي للمجازر التي قامت بها السلطات التركيّة هو كرهها للإيمان المسيحي، وعزمها على التخلّص من جميع المسيحيين، إلاّ في حال وافقوا على نكران إيمانهم واعتناق الإسلام. يبقى التعصب في أساس جميع المجازر المرتكبة. إنّ القسّ إسحق أرمله الذي جمع شهادات عديدة حول هذا الأمر يستنتج بشكل قاطع ويقول: «إنّ تركيا ما أنزلت بنا المظالم، وما ارتكبت الجرائم، إلاّ لأنّنا نصارى مسيحيّون، لا ذنب لنا قطعًا وأصلاً. فلأجل الدين المسيحي المحبوب عُذّبنا، ولأجله ذُبحنا، ولأجله استيق رجالنا ونساؤنا، ولأجله مُتنا أشنع الموتات». 23


1 تقرير القنصل فون شويبنر ريشتر، مونيخ، 4 كانون الأوّل 1916، راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 32. 2 تقرير القنصل كوخهوف، سَمسون، 4 تموز 1915، راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 30. 3 راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 47. 4   الأب جاك ريتوريه، المسيحيون بين أنياب الوحوش، ترجمة الأب عمانوئيل الريّس الكلداني، كنيسة القدّيس ميخائيل للكلدان، إلكاجون-كاليفورنيا، 2006، ص. 94-95. 5 Dictionnaire d’Histoire et de Géographie écclésiastiques, tome IV, article Arménie, colonne 348, par François Tournebize s.j. (1856-1926), professeur au séminaire de Beyrouth, Historien de l’Arménie.   6 الأب جاك ريتوريه، المسيحيّون بين أنياب الوحوش، ص. 64. 7 المرجع السابق، ص. 123. 8 المرجع السابق، ص. 137. 9 المرجع السابق، ص. 138. 10 المرجع السابق، ص. 165. 11 المرجع السابق، ص. 166. 12 المرجع السابق، ص. 174. 13 المرجع السابق، ص. 175. 14 المرجع السابق، ص. 206. 15 المرجع السابق، ص. 234. 16   القسّ إسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 144. 17   تقرير الأب ماري دومينيك بِرّيه الدومينيكي، الفصل 1: مجازر ماردين، المقطع 4: قتل النساء. 18   الأب ياسنت سيمون، ماردين المدينة البطلة، دار نعمان للثقافة، جونيه، لبنان، 1991، ص. 53-54. 19 راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 43. 20 Dictionnaire d’Histoire et de Géographie écclésiastiques, tome IV, article Arménie, colonne 349, par François Tournebize s.j. (1856-1926), professeur au séminaire de Beyrouth, Historien de l’Arméne. 21 راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 42-41. 22 راجع: المطران جان نازليان، الجزء الأوّل، ص. 39-38. 23   القسّ إسحق أرمله، القصارى في نكبات النصارى، 1919، ص. 81.
شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

المحطّات الأساسيّة

المحطّات الأساسيّة

Previous Chapter
الفصل التالي

شهادة ليونار رسالة لعصرنا

شهادة ليونار رسالة لعصرنا

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013