إستشهاده
  |  
روايات الكبّوشيين
Cross

الأخت مريم الانتقال

رواية مختصرة لمجازر ماردين في العام 1914

استقرّ الكبّوشيّون في ماردين منذ العام 1685، وأنشأوا فيها مدرسة مزدهرة للصبيان. واقتناعًا منهم بأهميّة الحضور النسائي للاهتمام بتعليم البنات، طلبوا المساعدة من راهبات لونس لوسونييه الفرنسيسكانيّات. وصلت المجموعة الأولى منهنّ إلى ماردين في نيسان العام 1875، وكانت مؤلّفة من أربع راهبات. ثمّ أتت مجموعة ثانية استقرّت في ديار بكر، العام 1882، ومجموعة ثالثة في أورفا، العام 1884.

شكّلت الراهبات اليد اليمنى للآباء الكبّوشيين في إرساليّة أرمينيا وبلاد ما بين النهرين. واستقطبت طريقة عيشهنّ دعوات عديدة من أهل البلاد، بين الأرمنيّات والكلدانيّات والسريان الكاثوليك.

مع بداية الحرب العالميّة الأولى في العام 1914، أذنت الحكومة التركية للراهبات الفرنسيّات بالمغادرة، نتيجة المسعى الذي قام به البابا، وبقيت الراهبات العثمانيّات فقط، وكنّ ثلاث راهبات في ماردين: الأخت باسيفيك، والأخت مريم الانتقال، والأخت أغات. قام البوليس بمصادرة بيتهنّ ومدرستهنّ للبنات، وباع الأثاث في المزاد العلني. اضطرّت راهبتين اللجوء إلى منزل عائلة كلّ منهنّ، فيما توجّهت الأخت مريم الانتقال، وهي كلدانيّة، إلى مطرانية السريان الكاثوليك حيث تابعت مراحل ترحيل أفراد عائلتها، وقتلهم مع الأب ليونار، عاجزة من أن تقوم بأيّ خطوة لتحريرهم. أثناء وجودها في المطرانيّة، تمكّنت الأخت مريم من تسجيل شهادات الناجين من قوافل الرجال والنساء المتلاحقة.

وبعد أربع سنوات، دَوّنت ما جمعته في «رواية مختصرة لمجازر ماردين في العام 1914» التي تستحقّ اهتمامًا خاصًّا لأنّها كُتبت من قبل شاهدة عيان تفصّل الأمور بدقّة نظرًا لشخصيّتها الأنثويّة. إنّها الرواية الوحيدة، على حدّ علمنا، التي تذكر الطريقة التي قُتل فيها الأب ليونار: …وتلقّى أبانا المأسوف عليه ضربة خنجر في قلبه.

أُرسلت نسخًا مختلفة من تلك الرواية إلى عدّة أشخاص، أحدهم هو الأب جوست البعبداتي الكبّوشي (+1962). وكان السيّد جان صالح (+1992)، شقيق الأب جوست، محتفظًا بالنسخة التي وصلت إلى أخيه، وحرص على تسليمها إلى كاتب هذا الموقع، بالإضافة إلى وثائق وصور أخرى عن الكبّوشيين، وذلك بضعة أشهر قبل وفاته، قائلاً له بأنّه سيودعها بين أياد أمينة سوف تحرص على استعمالها من أجل القضايا الصالحة. إنّ الأب توما صالح البعبداتي الكبّوشي، رفيق الأب ليونار، الذي استُشهد في مرعش في 18 كانون الثاني 1917، هو عمّ جان.

الرواية الأصليّة مكتوبة باللغة الفرنسيّة، حرصت الكاتبة فيها على الاعتذار من القرّاء بسبب أسلوبها الركيك لأنّها، كما تقول، ليست فرنسيّة. لذلك، حرصنا بدورنا على توضيح بعض الجُمل، ووضعنا التوضيح بين قوسين. لكنّ الأسلوب الركيك لا يقلّل من قيمة هذه الشهادة، وكلّ ما ورد فيها واضح ومفهوم. 

ننقل فيما يلي النسخة الأكثر اكتمالاً، المحفوظة في أرشيف الآباء الكبّوشيين في إقليم القدّيس بونافنتورا في ليون. نظرًا لطول الرواية، وضعنا لها عناوين فرعيّة لتسهيل القراءة.

الصفحة الأولى من مخطوط الأخت مريم الانتقال الذي أَهداه المرحوم جان صالح إلى المؤلِّف. النصّ عنوانه “رواية مختصرة جدًّا” أمّا النصّ المنشور فيما يلي فعنوانه “رواية مختصرة”.
الصفحة الأولى من مخطوط الأخت مريم الانتقال الذي أَهداه المرحوم جان صالح إلى المؤلِّف. النصّ عنوانه “رواية مختصرة جدًّا” أمّا النصّ المنشور فيما يلي فعنوانه “رواية مختصرة”.



قـلـق المسيحيين في مــاردين

في 23 كانون الأوّل العام 1914، طَرَدَنا المسلمون من ديار بكر، واقتادونا إلى ماردين، مسقط رأسنا، بمواكبة جنديّ سيّئ الطبع، عنيف التصرّف، والأمطار تنهمر علينا بشكل غزير، ما أضفى على الرحلة حزنًا كبيرًا.
وفي اليوم الثاني، انقلبت العربة التي تقلّنا ما أدى إلى كسر ذراع إحدى الراهبات. كانت رحلة مقلقة إلى حين وصولنا المدينة حيث التقينا ثلاثة رهبان دومينيكيين منفيين. وفي ليلة رأس السنة العام 1915 جيء بأثنين من الأرمن من ديار بكر، وتمّ إعدامهما بالرصاص خارج المدينة أمام الناس الذين تجمّعوا هناك، فتملّكنا الخوف، ولم نعد نعرف ما يخبئه لنا المستقبل. ثمّ ساد الهدوء المدينة حتّى شهر آذار حين قام الأتراك بتجميع الشباب المسيحيين، الأغنياء منهم والفقراء، وإرسالهم للعمل في شقّ الطرقات، كما العبيد الإسرائيليين تحت هيمنة المصريين.
وفي شهر أيار، قام البوليس بتفتيش منازل المسيحيين الكاثوليك، ومصادرة جميع الأسلحة، وتجريد الجنود المسيحيين من سلاحهم وبدلاتهم العسكريّة. اجتاح الخوف قلوبنا، وبدأنا نتوقّع مجزرة قادمة، ولكن كيف ستكون؟ لا يمكننا معرفة ذلك. وفي الشهر نفسه، استلم فتوح كندير [أحد أعيان الأرمن الكاثوليك] رسالة من ديار بكر تقول له بوجوب الهروب مع أولاده إلى مكان تواجد العرب [قبائل البدو العربيّة الضاربة رحالها في الصحاري خارج المدن] لأنّ الأمور تسير بشكل سيّء. ثمّ استلم رسالة ثانية، ومن بعدها ثالثة تكرّر ما ورد في الرسالة الأولى. ولَمّا عرض تلك الرسائل على الأعيان الكاثوليك قالوا له: «أحرق تلك الرسائل. نحن في ماردين لا نخشى شيئًا لأنّ الأتراك هنا يتحلّون بالشهامة وطيب القلب».
اطمأنّ بال المسيحيين المساكين من دون أن يدركوا يومًا أنّ قساوة الأتراك ستظهر أكثر من أيّ مكان آخر، وبطريقة لا تخلو من الخبث والخداع.


إلقــاء القبض على المطران مـالويــان

حلّ الرابع من حزيران، الموافق عيد الجسد [عيد جسد المسيح ودمه أو عيد القربان المقدّس]، وأتى ممدوح بك إلى ماردين، عند الظهر. وما إن استقرّ في المدينة حتّى وضع الحرس في محيطها كي يمنع أيّ كان من الفرار أمام شرّه. وعند الساعة الثالثة، أرسل البوليس إلى كنيسة الأرمن الكاثوليك الرعائيّة، وألقى القبض على المطران مالويان وأمين سرّه واثنين من الكهنة الذين مثلوا أمامه، ليسألهم عن مخبأ الأسلحة العائدة لدولته.
وكان هناك أحد المسيحيين المساكين الذي صار تركيًّا [المقصود مسلمًا]، جيء به ليُعطي شهادة زور، فادعى أنّه باع بنفسه الأسلحة إلى الأرمن، وأشار إلى المكان الذي تمّت فيه الصفقة. بناءً عليه، قام ممدوح باستجواب المطران والكهنة من دون أيّ نتيجة.
ثمّ قام بإلقاء القبض على اسكندر آدم، أكبر الأعيان الأرمن وأغناهم، وغيره من الوجهاء، وبدأ استجوابهم فيما كان جنوده يفتشون الكنيسة، بناءً على تعليماته، ووصل بهم الأمر إلى نبش قبور الأساقفة والكهنة.
بما أنّه لم يتوصّل إلى معرفة أيّ شيء عن السلاح، زجّهم كلّهم في الحبس إلى اليوم التالي حيث استمرّت التحقيقات معهم، مرفقة بالتهديدات. ثمّ بدأت جولة مخيفة، حين قام أربعة جنود مسلّحين، يعاونهم اثنين من الشرطة، بإلقاء القبض على الكهنة الخمسة الذين ما زالوا في الكنيسة، واقتحموا البيوت والأسواق، واعتقلوا الشبان وكبار السنّ الأرمن الذين فيها، بالإضافة إلى أعيان الكلدان والسريان الكاثوليك، ومعهم الأب ليونار المأسوف عليه، الراهب الكبّوشي اللبناني.
في ذلك اليوم، وبالرغم من شعوري بالخوف، ذهبتُ كالمعتاد لمقابلة سيّدنا المطران جبرايل تبوني، والأب جاك ريتوريه المحترم. طلب منّي سيادته بأن أضع منديلاً على وجهي، أثناء عودتي إلى البيت، كما تفعل باقي النساء في هذه البلاد. ما هذه الضربة القاسية! أرجو أن تكون لمرّة واحدة فقط. لذلك، وضعتُ منديلاً أسودًا كبيرًا فوق ملابسي، وعدتُ إلى البيت باكية أنتظر انقضاء النهار، ولكنّني لم أيأس.
استمرّت المداهمات سبعة أيّام متتالية، وفي كلّ ليلة كان المطران يُقتاد إلى غرفة التعذيب، مع ثلاثة أو أربعة آخرين من المسجونين، ويتعرّضون للفَلَق على أرجلهم فيما كانت أيديهم مربوطة على شكل صليب، ثمّ يُعادون إلى الحبس. وكان بينهم أحد المحامين، واسمه بطاني [إبن مختار الأرمن سعيد بطاني]، تعرّض للضرب المبرّح على بطّات ساقيه، وكانوا يضعون الملح على جروحاته النتنة، إلى أن أمر ممدوح الشرّير بوضعه في الكيس، وقتله خارج المدينة، ورمي جثته في أحد الصهاريج.
أثناء إقامتهم السيئة الذكر، كان شهداؤنا الأحباء يعترفون بخطاياهم مرّات عديدة. وحين جاء اليوم الأخير، وعرفوا بأنّ نهايتهم اقتربت، قام المطران يحثّهم على الثبات، ويشجعهم، ويدلّهم إلى السماء المفتوحة لاستقبالهم، وإكليل المجد الذي بانتظارهم. وتواجد في هذا المكان ثمانية كهنة من الأرمن، وأربعة من السريان الكاثوليك، وأبونا ليونار، وأربعمئة وثمانين رجلاً، كان معظمهم من أرباب البيوت، ومن الشباب البالغ من العمر ما بين 18 و 20 عامًا.
بدأت الاعترافات عند الظهر، وعند الساعة الخامسة جيء إلى المطران بالخبز والخمر، فقام بفعل التكريس، وأعطى المناولة إلى الكهنة تحت الشكلين، ثمّ قام الكهنة بإعطاء المناولة إلى المؤمنين. وفيما كان الاحتفال المقدّس قائمًا، كان أحد عناصر الشرطة الواقف وراء المطران يصفعه بعد كلّ كلمة تشجيع يقولها، من دون أن يتفوّه بطل الإيمان هذا بكلمة واحدة تجاه هذا السلوك الهمجي.
وأخيرًا، عند الساعة الثامنة مساءً، أتى ممدوح بك وقال لهم: سنأخذكم إلى ديار بكر حيث ستخضعون للمحاكمة. لكنّ كلماته المخادعة لم تدخل إلى قلوب المؤمنين. قام المطران مالويان، وقال له: سعادتكم، بما أنكم أنتم مَن ألقى القبض علينا، نحن نطلب بأن تأخذونا أنتم ونحن مخفورين إلى ديار بكر. فوعده ممدوح بذلك. لكنّ جميع شهدائنا الأحباء أدركوا بأنّهم لن يصلوا إلى هناك.


قـافـلـة الرجــال الأولى

حينئذ، بدأت المأساة الأكثر إثارة للمشاعر. تمّ الإعلان، في جميع أحياء المدينة، أنّ ترحيل المسجونين لن يتمّ، وأنّ على الجميع، من أمهات مسكينات وأولاد وزوجات، العودة إلى المنازل، بعد أن ازدحمت بهم شوارع المدينة، وذلك تحت طائلة التعرّض لإطلاق النار. لكنّ تهديداتهم لم تُجد نفعًا في قلوبنا المفتتة بسبب مغادرة أهلنا القاسية علينا، ولم تمنعنا من التوجّه إلى السطوح.
شعرنا بأنّهم يكذبون علينا، لذلك وجّهنا أنظارنا نحو ساحة القلعة حيث المعتقلين والتي صارت، في تلك الليلة، ساحة ألم وعذاب. وكنتُ أنظر إلى الساحة، كما الآخرين، وأنتظر الآتي بفارغ الصبر.
بين هؤلاء الأبطال، كان ابن أختي البالغ من العمر 21 سنة، ولد وحيد لأختي المفجوعة، مع والده البالغ من العمر ستين سنة، وأولاد عمّي، وأصدقاء ومعارف. وفيما كان قلبي ينفطر من الألم، صرخ بي أحد الأقرباء، وقال: إنزعي عنك هذا النسيج الذي يغطّي رأسك ويصل إلى الصدر وإلاّ سيُطلق عليك الرصاص، ليس الوقت الآن لإظهار هذا الزيّ الفرنسيّ. يا ألهي، ما هذا الكلام المرعب. أَركض إلى الداخل، وأنزع عنّي المنديل وقطعة النسيج، وأعود باكية أبحث عن فضولي الحزين.
وفيما كنتُ اترقّب، أعطى ممدوح الشرس الأمر لإخراج المسجونين الواحد تلو الآخر، وأوسعهم ضربًا، ثمّ ربطهم اثنين اثنين، جميعهم من دون استثناء، بما فيه أحد الكهنة وأبيه البالغ من العمر تسعون عامًا.
كان الأب ليونار في المقدّمة مربوطًا مع خادم الدير واسمه أسعد، وكان كلّ صفّ فيه ستة أشخاص، وقافلة المُرحَّلين محاطة بنحو ثلاثين جنديًّا من كلّ جانب. قُيّدت أباهم المطران بالسلاسل، ورقاب الأعيان بالأغلال، وسار الراعي البطل خلف القطيع، يبارك أولاده ويشجعهم، أمام ممدوح الراكب حصانه.
بدأت القافلة مسيرتها المهيبة عند الساعة الرابعة فجرًا، والسائرون فيها حفاة القدمين، عراة الرؤوس، لا يتفوّهون بكلمة، صمت تامّ يسود. كان اسكندر آدم مع ولديه، الأوّل يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، والثاني ثمانية وعشرين. لَمّا مرّ بالقرب من منزله، التفت إلى زوجته وأولاده الآخرين، فتلقّى فورًا ضربة قويّة. والأب ليونار، حين رفع رأسه أمام كنيسة الآباء، تلقّى ضربة على رأسه بواسطة مقبض البندقيّة. وأختي المسكينة، حين ركضت نحو ابنها، وُجّهت البندقيّة نحوها، فما كان منّي سوى اللحاق بها، فارتمت بين ذراعيّ مغميّة عليها.
يا ممدوح القاسي القلب، إلى متى ستستمرّ بتعذيبنا؟ وكلّ واحد راودته نفسه القيام بحركة ما، كان يتعرّض للتعنيف.

المجــزرة

أخيرًا، أتى اليوم السعيد، إذا جاز لي أن أطلق عليه هذه التسمية، وكان يوم الجمعة في الحادي عشر من حزيران، الموافق عيد قلب يسوع الأقدس، حين وصلت القافلة إلى الجبال غير البعيدة عن ماردين، وقُتل كلّ من فيها.
كيف حصل ذلك؟ ها قد مرّت أربع سنوات على تلك المجزرة ونحن لا نعرف بعد ما حصل بالضبط، لأنّ هؤلاء الوحوش حلفوا على القرآن بأن لا يقولوا الحقيقة.
وها هو أحد الأتراك الذين شاهدوا المجزرة يتكلّم. فالعديد منهم ذهب إلى هناك للاستيلاء على الملابس والساعات والخواتم وغيرها. قال لنا بأنّ العسكر لم يكلّف نفسه استعمال الخرطوش للقضاء على هؤلاء المسيحيين الكلاب (والكلاب هي الصفة الأكثر تهذيبًا التي نطق بها) بل كان يضربهم بواسطة دبابيس كبيرة كما يُضرب على اليقطين، وتقع الضربة في كلّ مكان.
وكان سيّدنا المطران [مالويان] آخر مَن تمّ قتله. لقد قطعوا جسمه إربًا إربًا. أمّا أبينا المأسوف عليه [الأب ليونار] فقد طُعن بخنجر في قلبه. ثمّ نزعوا عنهم ملابسهم، وعَرَّضوا أجسادهم للشمس نحو خمسة عشر يومًا.
لكن وجب علينا أن نعرف بأنّه، قبل استشهادهم، قال لهم ممدوح بك: تلقّيتُ الأمر بقتلكم كلّكم، لكنّنا نترك لكم حريّة الاختيار، فمن يريد أن يصبح تركيًّا [مسلمًا] أسمح له بالعودة إلى بيته.
أجابوا كلّهم بصوت واحد: نحيا ونموت على إيمان المسيح. ثمّ رسموا إشارة الصليب فيما كان سيّدنا يشجعهم بالقول: هلمّ يا أولادي، ها إنّ السماء فُتحت لنا.
حينئذ، بدأ الجنود بارتكاب جرائمهم. وفي اليوم التالي، عند الظهر، شاهدنا الحبال التي استُعملت لربطهم، وممدوح معها. كلّ شيء انتهى.
أثناء تلك الفترة، طلب منّا [الراهبات الثلاث] سيّدنا [المطران تبوني] التخلّي عن لباسنا الرهباني فورًا، لكنّنا أبقينا على قسم منه إلى حين ترحيل العائلات [أي قوافل النساء والأطفال].


قـافـلـة الرجــال الثانية

لم يتوقّف الطاغية القاسي القلب عند هذا الحدّ. أعاد الكرّة في الثاني عشر [من حزيران، أي في اليوم التالي] وألقى القبض على باقي الرجال مع خمسة كهنة من السريان الكاثوليك، وأربعة كهنة من الأرمن [الكاثوليك] الذين كانوا في كنيسة أخرى، حتّى أصبح عددهم ثلاثمئة رجل.
لكنّ هذه المرّة، تعرّض معظمهم للضرب المبرّح قبل زجّهم في السجن، كما حصل مع كاهن يبلغ من العمر سبعين سنة، إذ ضربوه في ساحة الكنيسة، ومع غيره من المعتقلين الذين ضربوهم في قاعة البوليس. وفي السادس عشر، بعد الظهر، قاموا بالفظاعات ذاتها التي قاموا بها مع المعتقلين السابقين، فربطوهم وقادوهم إلى خارج المدينة. وحين وصولهم إلى مغارة هناك، أُدخلوا فيها كلّهم. في هذه المرّة، بقي ممدوح في ماردين.
وها هو أحد الناجين العائدين إلى ماردين يروي لنا ما حصل معه. إنّه صهري الثاني. عاد وجرح كبير في رأسه، ورضوض مؤلمة في قدميه. كان يبكي كالطفل فيما يروي لنا ما شاهده من أمور لا يمكننا نقلها. سرعان ما توفي بسبب ما تعرّض له من عذابات، تاركًا وراءه زوجة وخمسة أطفال. إنّها قصة حقيقيّة، لكنّها لا تشمل جميع الأعمال الوحشيّة.


الأب مـلاش

ومع دخولهم المغارة، تقدّموا كلّهم لنيل سرّ الاعتراف، وكان الكهنة يحثّونهم الإقبال على الاستشهاد. وعند منتصف الليل، كان

الأب متى ملاش (المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسِيَر، بيروت، 1986، ص. 372)
الأب متى ملاش (المطران ميخائيل الجَميل، تاريخ وسِيَر، بيروت، 1986، ص. 372)

هؤلاء الوحوش الشرسة قد سجّلوا ثمانين اسمًا من الكهنة الأرمن والأعيان المكبلين بالأغلال، ومعهم أحد الكهنة الشباب من السريان الكاثوليك الذي قدّم نفسه للذهاب معهم. إنّه الأب ملاش الذي كان يهيئ نفسه لهذه اللحظة، قبل إلقاء القبض عليه بيومين، قائلاً لي بأنّه ذاهب إلى عرس الحمل.
وفي اليوم الذي اعتُقل فيه، كان في كرسي الاعتراف حين دخل البوليس الكنيسة وناداه بصوت عال. خرج فورًا وقال: أنا هو الأب ملاش، انتظروني لحظة وآتي إليكم. فما كان منه إلاّ أن توجّه إلى المذبح، وطلب المناولة من الكاهن المحتفل، ثمّ التفت إلى المؤمنين، ورآهم يبكون، فقال لهم: لماذا هذا البكاء، اليوم هو يوم النصر والمجد، ونحن ذاهبون إلى عرس الحمل. ثمّ ذهب مع البوليس، ولم نعرف أبدًا ما حلّ به وبالآخرين، وأيّ ميتة شنيعة كانت لهم.


أمر إيقاف المجزرة والعودة إلى مـاردين

وفي صباح اليوم التالي، قال الجنود لهم بأنّ القافلة ستواصل طريقها نحو ديار بكر. وكانوا يقودونهم إلى الطرقات الصعبة المليئة بالأشواك والحصى التي تعرّضت لأشعة الشمس الحارقة في شهر حزيران، وفي هذا الشرق.
ثمّ وصلوا إلى مجرى ماء، وكانوا مربوطين اثنين اثنين، وطلبوا منهم الجلوس بالقرب من الماء. وها هم الجنود، من دون أيّ إنذار، يُطلقون عليهم الرشقات الناريّة ما سبّب بسقوط العديد منهم، وبينهم الأب الشاب جبرايل سقط [كتمرجي]، البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، وهو أصغر أولاد عمّي. أصابت الرصاصة أذنه من الخلف، وخرجت من الجهة المقابلة، فوقع بين أيدي الكاهن السرياني [الأب جوزف رباني، مطران حمص وحماه لاحقًا] الذي كان مربوطًا معه وصرخ: يا يسوع ساعدني، ثمّ لفظ أنفاسه الأخيرة.
تقدّم الجنود، وقطعوا الحبال للفصل بين الأحياء والأموات. وبدافع من كراهيتهم، كانوا يقطعون رؤوس الأموات، ويجرّدونهم من ملابسهم، ويتركونهم على حالهم. وللأب سقط شقيقين لاقا المصير نفسه: الأوّل أكبر سنًّا منه، والثاني يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا كان معه في القافلة نفسها. أمّا الوالدة فما زالت على قيد الحياة.
تعرّضت القافلة لتلك المناورة القاتلة ثلاث مرّات. وفي المرّة الثالثة، وصل رسول من ديار بكر حاملاً الأمر بوقف المجزرة [إنّه عفو السلطان على أثر شفائه من المرض]. ولَمّا وصلوا إلى ديار بكر زجّوهم في السجون، وكانوا نحو مئة وخمسين. ثمّ سيقوا إلى ماردين في الواحد والعشرين [من حزيران]، ووصلوا إليها في الرابع والعشرين منه. شاهدناهم عند الصباح الباكر، يمشون وهم مربوطين اثنين اثنين، يتقدّمهم كاهن يتجاوز عمره السبعين، حاملاً عصاه، حافي القدمين، عاري الرأس [إنّه القسّ متى خريمو السرياني الكاثوليكي]. شاهده أحد تلامذته، فركض نحوه يقدّم له حذاءً. وهكذا تابعوا سيرهم بصمت حتّى دار الحكومة.
هناك قال لهم ممدوح بأنّه عليهم أن يعترفوا بفضل السلطان الذي أنقذهم من الموت المحتوم. وما كان من هؤلاء المساكين سوى الشكر، كلّ واحد على طريقته، فهتفوا قائلين: عاش السلطان… عاش ممدوح بك…
وبالرغم من هذا الشكر، وجب عليهم العودة إلى الحبس لأنّ ممدوح لم يكن بعد قد شفي غليله من تعذيب هؤلاء المسيحيين المساكين. فقام وفَصَلَ السريان والكلدان عن الأرمن الذين أبقاهم في الحبس. وكان كلّ يوم يطلق سراح البعض منهم، بعد أن يعرّضهم للضرب المبرّح. وكان بينهم هذا الكاهن الشيخ الذي تعرّض لأكثر من ثلاثمئة ضربة على قدميه، ثمّ نزعوا له لحيته، ووضعوها في ثوبه الكهنوتي، وصلبوه قائلين له: «إنّ مسيحك صُلب أيضًا، ناديه وسيأتي ليخلّصك». عُذّب لدرجة كبيرة حتّى صار لسانه خارجًا عن فمه. أشار على الجلاّدين ليعطوه قطرة ماء فرفضوا. [إنه الأب متى خريمو]
وبعد تلك الفصول الوحشيّة، دُعي للمثول، لكنّه لم يتمكن من السير خطوة واحدة. فجيء بأحد الأتراك ليضعه على ظهر حماره، ويسير به إلى كنيسته، وهو في حالة بين الحياة والموت. استقبله سيّدنا المطران والكهنة، وأرسلوا فورًا وراء الطبيب. توجهتُ لرؤيته، وكان لسانه ثابتًا لا يتحرّك. أراني لحيته، وكان يبكي قائلاً: «لم أستحقّ السماء، كلّ هذا العذاب من دون أن أموت!»
استعاد الكاهن عافيته، وهو ما زال على قيد الحياة، لمجد الله.
أخيرًا، رَحَّلوا الأرمن إلى نواحي الموصل، وهناك قتلوهم كلّهم.


قـوافـل النساء

في الفترة الممتدّة من 24 حزيران حتّى 21 تموز، شاهدنا وصول المئات من النساء والأطفال الأرمن. بدأوا السير منذ ستة أشهر وما زالوا، ومات ثلاثة أرباعهم من الجوع والبؤس، وكنّا لا نرى فيهم سوى هياكل عظميّة عليها خرق بالية. حينئذ، أدركنا أنّه علينا التخلّي كلّيًّا عن لباسنا الرهباني تحت طائلة الترحيل، ليس بالضرورة تجنبًا للقتل، بل تجنبًا للوقوع بين تلك المخالب الجهنميّة القذرة.
وفي الحادي والعشرين من شهر تموز، جاء دورنا، عند الساعة الرابعة فجرًا. صعد البوليس إلى السطوح، ودقّ أبواب العشرات من العائلات الكبيرة، فيما كانت النساء والأطفال نائمين. ولَمّا استيقظت النساء المسكينات، أدركت على الفور المصير الذي ينتظرها. لا المال ولا الذهب استطاع تأمين خلاصهم. أُعطوا النهار فقط لتحضير أنفسهم، وعند المساء جيء بعربة أو اثنتين لكلّ عائلة، بحسب عدد أفرادها، وانطلق الموكب عند منتصف الليل.


شَمّي (شْمونه) جينانجي

كانت شَمّي جينانجي إحدى السيّدات في قافلة العائلات النبيلة من الشهداء، ولديها صبيّ وحيد يبلغ من العمر ثمان عشرة سنة. قُتلت اثنتان من بناتها مع عائلاتهنّ، وبقي معها في المنزل أربع بنات، أصغرهنّ تبلغ ثلاث سنوات، واسمها ڤيرجيني.
قامت هذه الأم الشجاعة بمقتضيات النظافة والمظهر اللائق مع بناتها الأربع، وقالت لهنّ: لا تخفن، إنّنا ذاهبات الآن إلى الملكوت السّماوي، ولو زيد على عمرنا يوم واحد على هذه الأرض أو نقص، فلا يستحقّ البقاء فيها، وسوف نلتقي مع أبيكم الذي ينتظرنا في الأعالي.
ثمّ مسكت ابنتها الصغيرة بيدها، واصطحبت الجميع إلى الشرفة الخارجيّة المواجهة لنافذة سيّدنا المطران [جبرايل تبوني] في غرفته، ونادته، وطلبت منه البركة ليعطيها لهنّ من خلال النافذة.
وبعد أن حصلت على بركة سيّدنا، توجّهت هذه العائلة اللطيفة إلى العربة [الواقفة في الخارج]. التقت جميع العربات خارج المدينة، وعند الفجر، بدأوا [الجنود] بالفظائع. قتلوا ابن السيّدة السابقة الذكر، وسلّموها ثيابه الملطّخة بالدم، ثمّ عرّوها من ثيابها، وقطعوا أذنيها، ثمّ أنفها، ثمّ غيرها من الأعضاء، وماتت على هذه الحالة، مقطعة الأوصال. أمّا بناتها الجميلات فقد استولى عليهنّ العرب.
استطاعت إحدى النساء الموجودات في هذه القافلة من الهرب [إنّها حنّة، زوجة مال الله، شقيق المطران مالويان]، واشتراها أحد الأكراد، ثمّ تمكّنت من العودة إلى ماردين، وروت لنا ما يعجز القلم عن نقله. وفي صباح اليوم التالي، عادت العربات فارغة إلى ماردين.


قـافـلـة النساء الثانية

بدأ تجميع القافلة الثانية من النساء منذ الخامس من آب، واستمرّ لمدّة أربعة أيّام لم نكن نرى أثناءها في الشوارع سوى الجنود وأفراد البوليس المسلّحين بالعصي. كانوا يتسلّقون الجدران، ويدخلون البيوت حين يشاؤون، في النهار أو في الليل، يضربون النساء، ثمّ يجلبون اثنين من الحمير أو ثلاثة، بحسب عدد الأشخاص، ويجبرون الناس على السير أمامهم.
وفي الثامن منه، أتى دور أختي الكبيرة المسكينة والمأسوف عليها، مع صبيّة أخرى، وامرأة شابّة مع طفلها الأوّل البالغ من العمر سنة ونصف. ما هذا اليوم المشؤوم الذي أُجبرتُ فيه على تحضير الزاد لهذه الرحلة التعيسة، فيما كانت أختي وأولادها تنوح وتبكي ابنها الذي سبقها.
وجب عليّ الوقوف طوال النهار، والقيام بعمل مؤلم للغاية، وبكلّ شجاعة. ولَمّا وصل البوليس لتسجيل أسمائهم، أرادوا ضمّي إليهم، مهما كلّف الأمر. لكنّني نكرتُ أختي الحبيبة، وقلتُ بأنّها جارتي، وهربتُ إلى بيت ابن عمّي القريب، ومن هناك تابعتُ الرحيل المحزن الذي تمّ عند منتصف الليل.
الله وحده يعلم حسرات قلبي في تلك اللحظات، حين أخذتُ أُلبّس الولد الصغير، وأعانقهم عناق الأغراب، بمرأى من البوليس الذي كان يراقب كلّ حركة بحيث لم نجرؤ على التفوّه بكلمة واحدة، ولا حتّى البكاء على الفراق. يا إلهي، فليكن لي بحسب قولك، هذه صرخة قلبي حتّى مماتي.
وفي التاسع منه، جُمعت النساء والأطفال كلّها في الساحة الكبيرة، مثل قطيع الخراف الذي ينتظر الجزّار، وهم يأكلون ما تسنّى لهم من زاد. في ذلك الوقت، نُفيت الأخت باسيفيك وعائلتها.
وأخيرًا، في اليوم الرابع، بدأت المسيرة باتجاه حلب. كانوا أكثر من خمسمئة، أُجبروا على السير ثمانمئة كيلومتر، طوال ثلاثة أشهر. مات نصفهم على الطريق، بسبب الجوع، والأطفال سُلبوا، والشيوخ أُشبعوا ضربًا، ومع هذا كلّه، كانت تلك المسيرة من أهوَن المسيرات.
وها إنّي استلم رسالة من أختي، بعثت بها مع أحد الجنود المرافقين، حين وصلت إلى المحطّة الأولى. طلب الجندي فرنكًا واحدًا لتسليمي الرسالة، وحين لم أتجاوب معه فورًا، شهر سيفه بوجهي وهدّدني، فما كان منّي سوى الانصياع، وإعطائه الفرنك المطلوب بسرعة.
وفي آخر السنة، تلقّيتُ الخبر المفجع: لقد ماتت أختي بسبب الجوع والبؤس، مع والدة إحدى أخواتنا الراهبات.


قـوافـل أخرى من النساء

وها هي قافلة أخرى تنطلق، مؤلّفة من نحو 150 مُرحَّل. ما أن وصلت بالقرب من قرية كرديّة، أطلق الجنود طلقة واحدة، هي الإشارة المتعارف عليها [للبدء بالهجوم على القافلة]. هجم الأكراد على القافلة كالذئاب على الحملان، وحصلت مجزرة رهيبة. رموا بالأطفال على الصخور، أو في برك المياه، وجَرَّدوا النساء من ملابسهنّ، وأخذوا الفتيات الصغيرات وبعض النساء لبيعهنّ في السوق، ولينتقلن من شارٍ إلى شارٍ آخر.
في هذه القافلة استُشهد اثنتان من المعلّمات المعاونات: قُطّع جسد الأولى إربًا إربًا، وأُخذت الثانية لتصير تركيّة [مسلمة]، وضُربت كثيرًا، ولَمّا تعبوا من ضربها، قتلوها. وما أن انتهت المجزرة حتّى جمعوا الجثث في كومة كبيرة مصفوفة مثل كومة الحطب، وصبّوا عليها النفط، وأضرموا فيها النار، ثمّ نَخَلوا الرماد لالتقاط المجوهرات التي ابتلعها هؤلاء المسكينات.
بعد ذلك، وحتّى شهر تشرين الثاني، صارت القوافل تنطلق بوتيرة أكبر، وكان البوليس والجنود حاضرين في كلّ مكان، نهارًا وليلاً، وينتقلون من منزل إلى آخر.
كانوا يجمعون خمسين شخصًا أو أكثر في كنيسة الأرمن، ويبقونهم فيها لبضعة أيّام، ثمّ يسوقونهم إلى دارَه، وهي قرية صغيرة بجوار ماردين، حيث يوجد هاوية لا قعر لها [كبيرة جدًّا] رُميت فيها آلاف الأجسام البشريّة.
ما أن يصلوا إلى هناك حتّى تُعطى الإشارة إلى الأكراد الذين يهجمون على القافلة، ويجرّدون الجميع من ملابسهم. وكان الاتفاق بأن يَأخذ الأكراد الملابس الداخليّة، والجنود الملابس الخارجيّة. وكانوا يقولون لهم: إنّ مسيحكم مات وكان عريان.
ثمّ يبدأون بالأكبر سنًّا، اثنتين اثنتين، وكانت معهنّ إحدى معلّماتنا البالغة من العمر ثمانين عامًا وهي شبه عمياء، فيحزّون السكّين على رقابهنّ، ويرموهنّ بتلك الهاوية وهنّ شبه أموات، وقد رأينا بعض تلك الأجساد شبه منحورة وشبه ميتة في صهاريج لا ماء فيها لمدّة خمسة عشر يومًا.
أمّا الفتيات اللواتي تحلو لهنّ فيأخذونها ليبيعوها، من واحد إلى آخر. وهكذا عرفنا ما الذي حصل، من أفواه تلك المخلوقات المسكينات التي استطاعت العودة إلينا، منها مَن تزوّج تركيًّا، ومنها مَن طُرح في الشوارع بسبب المرض.
أثناء تلك الأحداث كلّها، لم أتنعّم بالراحة، ولا حتّى أثناء يوم واحد. ومع أنني كنت متنكرة، كانوا يسألون دائمًا عن الراهبة. وعندما يوجّهون السؤال إليّ، كنتُ أقول بأنّه تمّ نفيها. لقد كنتُ بالفعل منفيّة عن عائلتي الرهبانيّة، ولا وجود لأحد بالقرب منّي.
وأخيرًا، بين قوافل النساء الأخيرة هذه، كان ابن أخي [أو ابن أختي] البالغ من العمر واحد وثلاثون عامًا، قُتل بالقرب من ديار بكر، وابنة أختي التي نُفيت مع ولدها البالغ من العمر اثنين وعشرين شهرًا، وإخوانها الأكبر منها سنًّا الذين قُطّعوا إربًا إربًا، وزوجة أحدهم التي جرّدها الأتـراك من ملابسها وملابس ولدها، وقالوا لها: أَعطنا الولد. أجابت: لن أُعطيكم إيّاه أبدًا، أُقتلوه أمام عينيّ. فانتزعوا الولد منها بشراسة، وما كان منها سوى أن رمت بنفسها في الصهريج، ووقعت فوق آلاف الجثث المرمية فيه، وهي ما زالت حيّة، كي تتجنّب الوقوع بين أياديهم الملطخة. متى ماتت وكيف؟ إنّه سرّ الله وحده.


رواية إحدى الناجيات

ذهبتُ لرؤية إحدى البنات الناجيات. كانت تلميذة عندنا، وتمكّن والدها من استردادها بالشراء. لم يعد عندها شكل إنسان. قالت لي: حين أخذونا، قاموا أولاً بتجريدنا من ملابسنا، ثمّ اختاروا أجملنا، وانقضّوا علينا بالفؤوس والسكاكين. تلقّيتُ أربع ضربات، أكثرها قوّة آخرها. أُغمي عليّ، فتركوني اعتقادًا منهم بأنّي صرت ميتة. أنقل ههنا روايتها الحرفيّة:

 «لَمّا استعدتُ وعيي، رأيتُ من حولي ساحة كبيرة من الجثث العارية المبعثرة. ورأيتُ ابني البكر البالغ من العمر ثلاث سنوات يغمره الدم، والابن الآخر، الأصغر منه ببضعة أشهر، مربوطًا على شجرة بقربي، ورأسه إلى الأسفل، وجسمه محروقًا بالكامل. عند هذه المشاهد الرهيبة، أُغمي عليّ مرّة أخرى. استعدتُ وعيي عند الصباح، وصرختُ أسألُ إذا كان أحد ما زال على قيد الحياة، فليساعدني. سمعتُ صوت امرأتين. اجتمعنا نحن الثلاثة لنرى ماذا نفعل. علينا التحرّك ولو كلفّنا ذلك حياتنا، فهو أفضل لنا من البقاء هنا والموت جوعًا. بدأنا السير من دون أن نعرف أين نذهب، وكنّا عراة. اجتزنا الجبال مدّة ستة أيّام، نتناول العشب، وكدنا نموت من العطش لأنّ المياه نادرة، إلى أن التقينا بالأكراد الذين سارعوا إلى التخلّص من الأكبر سنًّا بيننا، وأخذوا الاثنتين الآخرتين، وباعوني أنا ثلاث مرّات.»

وكانت الضربة الأخيرة التي تلقّتها سبّبت لها جرحًا بليغًا ما زال ينزف قيحًا. ولو تسنّى لجميع اللواتي التقيتهنّ أن يكتبن ما جرى لهنّ، لتطلّب ذلك مجلّدات كثيرة، فكلّ واحدة عُذّبت بطريقة بربريّة.


رواية أحد الناجين الأرمن

فيما كانت الويلات تَحدث على يد الأكراد، كان نحو مئة رجل ما زالوا محتجزين في سجون قلعة ماردين. حُبسوا هناك مدّة خمسة وعشرين يومًا حتّى عيد الأكراد المسمّى عيد القربان، أو عيد الأضحى.
ليلة هذا العيد، قاموا بالفرز: أَخلوا سبيل السريان من الطائفتين، والكلدان، وأَبقوا على الأرمن المساكين الذين ربطوهم كلّ أربعة منهم مع بعضهم البعض، وعند الثامنة مساءً، اقتادوهم إلى مكان غير بعيد عن المدينة، يوجد فيه صهريج لا يحتوي على كمية كبيرة من المياه. وفي هذا المكان، بدأوا يأخذون الواحد تلو الآخر، يجرّدونه من ثيابه، ويقطعون رأسه كما لو كانوا يقطعون أضاحي العيد، ويرمونه في الصهريج.
وحين تبيّن أنّ الموت ينتظر الجميع من دون رحمة، قرّر أربعة منهم الرمي بأنفسهم في الصهريج، قائلين بأنّه ولو كان الموت محتومًا، لكنّهم لن يموتوا بواسطة تلك الأيادي القذرة. وهكذا شَدَّ واحد منهم الآخرين، فسقطوا كلّهم إلى الصهريج.
أثناء تلك المناورة، قُتل الأوّل على الفور، وعاش الثاني بضعة أيّام بعد أن صار مجنونًا، وعاش الثالث خمسة عشر يومًا، والرابع نحو ثلاثين يومًا حين اقتربت من البئر إحدى النساء الكرديّات، وصرخت إذا ما كان أحد على قيد الحياة، وأقسمت على محمد بأنّها ستخلصه من دون أن تؤذيه.
وكان الرجل المسكين يقتات من العشب الذي ينمو على الجدران، ويشرب حتّى الدم البشري، فاستجاب لنداء تلك المتوحشة. وما إن دلّت له الحبل لسحبه ورأته حتّى ضربته بحجر كبير سبّب له كسرًا في ذراعه، وألحق الضرر في صدره، فما كان منه سوى الإفلات من الحبل، ورمي نفسه مجدّدًا فوق الأجساد الميتة.
وبعد اثنين أو ثلاثة أيّام، مرّ كرديٌّ أكثر رحمة. مال إلى البئر وطرح السؤال نفسه، لكنّ المسكين المذكور سابقًا لم يجرؤ على الإجابة فورًا، بل انتظر الكرديّ ليكرّر السؤال عدّة مرّات. حينئذ دلّ له الحبل، وسحبه من الصهريج، وأخذه إلى بيته حيث مكث عنده ثلاثة أشهر، ثمّ قال له: إن كنتَ ترغب في العودة إلى المدينة، أنصحك بوضع عمامة حول رأسك، واتخاذ اسمًا تركيًّا لك، كي تتجنّب التعرّف إليك.
وبالفعل، عاد إلى ماردين بالزيّ والاسم التركيين، وكانت والدته قد نُفيت مع أخته وأخيه، لكنّه عرف مصيرهم بعد حين. لقد سمعتُ تلك الرواية من فمه، ورأيتُ يده المكسورة.

[إنّه الياس نازار، من شهود دعوى تطويب المطران مالويان، وردت قصّته على لسان أكثر من شخص، وبتلوينات مختلفة]


التـركيّ الساديّ

لا يسعني الاستمرار من دون أن أذكر هذه القصة. كان هناك رجل تركيّ يسكن بجوار حيّنا، واتخذ له صبيّة أرمنيّة من أرضروم عمرها ثماني سنوات. وكان هذا البربريّ القاسي القلب يتلذّذ بتعذيب تلك الصبيّة، ويقتلع أظافر يديها ورجليها، ثمّ يضع عليها مرهمًا لتشفي، ليعاود اقتلاعها مرّة أخرى بعد الشفاء. قام بهذا الفعل الشنيع ثلاث مرّات. وحين سُئل لماذا يتصرّف هكذا مع الصبيّة، أجاب بأنّه يشعر بالمتعة حين يرى مسيحيّة تتعذّب. إنّها بربريتهم الجهنميّة، والكلمة لا تعبّر كفاية عن الواقع.


التيفوس يقضي على الجنود الجزّارين

أثناء تلك السنة، عمل التيفوس خرابًا رهيبًا إذ كان يموت بسببه، كلّ يوم، نحو ثمانين أو تسعين جنديًّا من الساكنين في بيوت الأرمن المصادرة. وفي الصباح، كانت القوافل تأتي من جميع الجهات. كانوا يجرّدون الجنود من ملابسهم، ويضعونهم عراة على محمل، الواحد فوق الآخر، بحيث تختلط رؤوس البعض مع أرجل البعض الآخر، ثمّ يضعون مَن يُنازع فوق الكلّ، قائلين بأنّ لديه الوقت ليموت أثناء المسيرة.
وكانوا يرمون هؤلاء المساكين كيف ما كان، في خندق طويل جدًّا حفروه منذ اليوم الفائت، ثمّ يغمرونهم بالتراب، وصار سكان الحيّ القريب من المكان لا يتحمّلون رائحة الجثث الكريهة. وإلى جانب هؤلاء الجنود الذين ماتوا في المدينة، مات جميع الذين كانوا قد ارتكبوا المجازر فيها، وعددهم 2500 بربريًّا، فصاروا فقط مئتين بعد سنتين، إذ ماتوا بين الدماء، ينبحون كالكلاب المسعورة. الله عادل.


العودة إلى أورفــا

ها نحن في شهر حزيران، العام 1916، وأنا أتوق للعودة إلى أورفا، إلى جانب أخواتي الراهبات، ولكن كم من أخطار سأتعرّض إليها.
عرفتُ بأنّ في المدينة تركيّ من حلب، أرسله القنصل لاصطحاب صبيّة أميركيّة. توجّهتُ لمقابلته، وبعد أن تعرّفتُ إليه، أخبرته بأنّي راهبة كلدانيّة أُريدُ الذهاب إلى أورفا. وعدني بحمايته، وكان أمينًا على هذا الوعد.
غادرتُ المدينة واضعة حياتي بين يديّ الربّ. عند وصولي إلى رأس العين، سرقوا الجعبة التي كنتُ أضع فيها زادي، وأرادوا توقيفي، وإرجاعي إلى ماردين، وزجّي في الحبس هناك، بحجّة أنني أرمنيّة. نظرًا للوضع، وبناءً على نصيحة مرافقي، توجّهتُ إلى مختار القرية، وعرضتُ وضعي أمامه، وقلتُ له بأنّي كلدانيّة ذاهبة إلى حلب للإقامة هناك. خضعتُ للاستجواب، ثمّ أُخلي سبيلي بعد أن رشوتُ الشرطة.
ما أن وصلتُ حلب حتّى قادوني إلى الشرطة، وقضيت في السجن يومًا واحدًا وليلتين. آه، كم كانت فظيعة هذه الليالي! خرجتُ من هناك، وأَمضيتُ شهرًا عند السيّد بوش بانتظار الحصول على وثيقة سفر إلى أورفا، وغادرتُ بصحبة أحد آبائنا الرهبان. وفي هذه الرحلة أيضًا، خلّصني الربّ من مخاطر كثيرة، وانتشلني من فم الأسد التركي الذي كان يرغب بالقضاء عليّ.
لا يمكنني الكلام عن القرى المحيطة بماردين لأنّها أُحرقت كلّها، وقُضي على جميع سكانها، وارتُكبت فيها الفظائع التي أعجز عن وصفها.
وأخيرًا، باستطاعتي القول إنّ ما كتبته يشكّل مختصرًا بسيطًا لرواية كبيرة سوف تبقى تفاصيلها وملابساتها محفورة في قلوبنا حتّى الموت، وبخاصّة ما يتعلّق بخسارة عائلاتنا الحبيبة. أنا وحدي خسرتُ نحو أربعين شخصًا من عائلتي، بين مقتول ومجهول المصير.
كان ممدوح بك قاسي القلب، لكنّ الذين نفّذوا أوامره كانوا أشرس منه. وجميع هذه الأمور شاهدتها بعيني، أو سمعتها مباشرة من الذين كانوا شهود عيان.

ليعمل الرب الرحيم على توبة هؤلاء المساكين، أعداء الإيمان، ويجمعنا يومًا ما مع شهدائنا الأبرار.

راهبة فرنسيسكانيّة من ماردين

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

رسالة الأب بونافنتورا

رسالة الأب بونافنتورا

Previous Chapter
الفصل التالي

الأب آنج دوكلاميسي

الأب آنج دوكلاميسي

Next Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013