إستشهاده
  |  
روايات الكبّوشيين
Cross

الرسول الصغير

 

في عام 1920، نشرت مجلة الآباء الكبّوشيين «الرسول الصغير» مقالاً مسهبًا حرّرته راهبات لونس لوسونييه بعنوان «خمس سنوات نفي في المشرق». نُشر المقال، الذي لم يُوقّع توخّيًا للحذر، على حلقات، في عدّة أعداد من المجلّة. وهو يسرد بالتفصيل عمليات ترحيل الكبّوشيين والراهبات من ديار بكر وأورفا، واستشهاد الأب ليونار في ماردين، والأب توما في مرعش. تتقاطع معلومات هذا المقال مع تقرير الأب بونافنتورا البعبداتي، ورواية الأب أتال دوسانتيتيان.
ولكي نعرف مَن كتب هذا المقال الطويل، نستند إلى تقرير الأب بوناڤنتورا الذي يذكر أسماء الراهبات الست اللواتي بقين في الإرساليّة بعد رحيل الراهبات الفرنسيّات، وهنّ: ثلاث راهبات أرمنيّات، وراهبة سويسريّة، وراهبتان فرنسيّتان لم تتمكّنا من الانضمام إلى الراهبات اللواتي رَحَلن، لأنّ إحداهما كانت كبيرة في السنّ والثانية مريضة جدًّا (الأخت أنياس، رئيسة الراهبات الفرانسيسكانيّات في أورفا)، وبالتالي لم تكن الاثنتان قادرتين على كتابة مثل هذا المقال الطويل. ومن غير المعقول أن يكون مؤلّف المقال الراهبات الأرمنيات، نظرًا لركاكة أسلوبهنّ في الفرنسيّة، وشهادة الأخت مريم الانتقال مثال على ذلك. تبقى الأخت أنّا، السويسريّة الجنسيّة. هي من ألّف، على الأرجح، هذا المقال الطويل. ونظرًا لأهميّته، نورده بحرفيّته. لم نضف إليه سوى العناوين الفرعيّة.*

1914

عندما ذاع خبر اندلاع الحرب العظمى التي قضّت مضجع أوروبا، ذُهل مسيحيّو الشرق… يا لها من مناسبة سانحة أمام الأتراك ليؤجّجوا الأحقاد القديمة، ويشحذوا يطقاناتهم! لن يفوّتوا الفرصة بالتأكيد. وكانت الخطّة الملائمة بمتناولهم: الاتّحاد مع ألمانيا، وطرد الفرنسيين وحلفائهم، أو إلحاق الجور بهم، ثمّ إطلاق العنان للاضطهاد الديني ولجميع أوجه الإسراف التي تميّز أهواءهم الشرسة، يقومون به بحجّة الحرب السياسيّة.

كانت الأمّة الأرمنيّة، كما في 1895، الضحيّة المعيّنة مسبقًا لهذا القتل الجماعي الذي شكّل إحدى أفظع المآسي التي سجّلها التاريخ؛ مأساة لا يمكن لأيّ لغة ولا لأيّ قلم أن يصف مشاهدها المؤلمة، وأن يكشف عن أحداثها الغاشمة.

في عام 1895، لم تستطع الشراسة الإسلاميّة أن تأخذ كامل مداها. فقد كان المرسَلون هناك لاستقبال الفارّين وإيواء حشودهم تحت الراية الفرنسيّة! أمّا هذه المرّة، فسيُطرد الرعاة قبل أن يُذبح القطيع.

منذ أولى أيّام تشرين الثاني 1914، وبعد توجيه أمر إلى المرسَلين بوجوب مغادرة تركيا، صودرت مبانيهم، وبدأ على مرأى منهم نهب جميع موجوداتهم من أثاث وثياب وبياضات ومؤن. بالكاد تُركت لهم بعض الملابس للطريق.

الهجرة من خربوط – الوصول إلى ديار بكر – الحرائق والمداهمات

آباؤنا وراهباتنا في خربوط كانوا أوّل من بدأ هذه الهجرة الأليمة. وفي يوم الأحد 8 تشرين الثاني، بعد إقامة قدّاس أخير، تركوا مقرّهم وسط بكاء تلامذتهم العديدين، وعويل سكّان امتلكهم الخوف.

هل سيُقدّر للمسافرين أن يسيروا على الأقلّ بسلام؟ لا تتخيّلوا ذلك! سيُضاف إلى تعب السفر ما يكفي من التنكيد والإزعاج لملء مجلّد كامل حول هذه الرحلة التي دامت ما لا يقلّ عن شهرين.

في 11 تشرين الثاني، التحق بنا الهاربون في ديار بكر. لم يكن لديهم أمل في أن يجدونا في مقرّنا لأنّ عداوة الأتراك في تلك المنطقة بدت وكأنها تتحوّل إلى جنون. لا بل إنّ الاضطهاد كان قد سبق الإعلان عن الحرب. في شهر آب، أُحرقت جميع محلاّت المسيحيّين، وكان الأتراك، الذين أضرموا النار، ومنعوا وصول الإسعاف، يشاهدون الحريق ببهجة شرسة.

في إحدى اللحظات، هدّد الحريق الإرساليّة. وبما أن قنصل فرنسا كان غائبًا، نقلنا القنصل الإنكليزي إلى مقرّه، آباءً وراهبات، من أجل تفادي الخطر، وإنقاذ أثمن ما في الكنيسة.

تلى ذلك الإنذار هدوءٌ نسبيّ، لكننا شعرنا، منذ ذلك اليوم، رفرفة إحساس بالموت. وكان الأتراك يغدقون على المسيحيّين بتهديداتهم: «سنخطف أنفاسكم ولن ينقذكم المرسَلون، إذ سنبدأ بهم.»

رغم كلّ ذلك، تابعنا إعطاء الدروس في مدارسنا، حيث كان يأتي العديد من البنات. عند أوّل برقيّة أبلغت عن إعلان الحرب، أُمرَ الآباء بإنزال العلم الفرنسي الذي كان يرفرف فوق ديرهم. وفي 5 تشرين الثاني، عند الساعة الثامنة صباحًا، طوّق رجال الشرطة مدرستهم ومدرستنا، مكتفين بالردّ على سؤالنا: «ماذا يجري؟» بهذه الكلمات: «سترَون.»

ارتعبت الفتيات، وهرعن إلى فناء المدرسة باتجاه الباب الخارجي الذي كان يحرسه جنديّ، فتسلّقن الشرفات هربًا.

وجد جارٌ عطوف سبيلاً لينبّهنا بأنّ الأمر يتعلّق بمداهمة، فرمينا في البئر الأسلحة القليلة التي كان الأرمن قد وضعوها في عهدتنا. وما أن انتهينا من هذه الحيطة حتّى وصل رئيس الشرطة وبدأ التفتيش… وصل بهم الأمر إلى البحث في أسرّتنا، ولكن دون جدوى.

ثمّ قام أولئك السادة بتسجيل أسمائنا وأعمارنا وجنسيّاتنا… بأيّ هدف؟ النفي؟ الطرد؟ القتل؟

في غضون ذلك، أبلغونا بإقفال الصفوف التي وضعوا الأختام عليها في اللحظة ذاتها.

غداة ذلك اليوم، أقيمت مستشفى في قاعات المدرسة. وفي هذه الأثناء، وصل إلينا الآباء والراهبات من خربوط ليعيشوا معنا أيّام القلق التي كانت بانتظارنا.

طردُ المرسَلين الفرنسيّين

غير أن مساعدةً جاءتنا من العناية الإلهية. فالأب آنج [دوكلاميسي، رئيس الإرساليّة] الجزيل الاحترام، حرصًا منه على مصير مرسَليه، هرع من فرنسا ليشاطرهم مخاطرهم ويؤمّن سلامتهم، قدر المستطاع. وفّر عليه الأتراك التردّد في القرار الواجب اتخاذه. ففي 19 تشرين الثاني، في عيد القدّيسة أليصابات، أُبلغ الرئيس العام الوافر الاحترام أمر مغادرة البلاد مع جميع المرسَلين الفرنسيين.

هكذا دقّت بالنسبة للجميع الساعة التي طالما خشيناها! ولم يكن ذلك يعني انهيارًا للمؤسّسات التي أقيمت بجهد وأناة وحسب، وإنما أيضًا انفصالاً أليمًا فُرض على نفوس لها الحياة نفسها والهدف نفسه والمشاعر نفسها.

فمن بين المُرسَلين، آباءً وراهبات، كان هناك رعايا عثمانيّون. وهؤلاء، كان ينوي جلالة السلطان أن يبقيهم على أراضيه، حيث سيدفعون غاليًا، أصلاً، ثمن حبّهم لفرنسا، وطنهم الثاني الذي يدينون له بتربيتهم وبتدريبهم الديني.

ولكن واجَهتنا حالةٌ خاصّة: فمن بين الراهبات الفرنسيّات المطرودات كانت هنالك واحدة مريضة جدًّا. أعلمْنا الوالي بالأمر فأجاب: «لترحل رغم ذلك! – لكنَّها ستموت في الطريق – ما همّ، لتَمُتْ!»

تأثر الأب آنج الجزيل الاحترام كثيرًا واحتار في أمره، ففكّر في أن يثير اهتمام القنصل الأميركي الذي كان مارًّا بديار بكر، وكأنّ العناية الربّانيّة أرسلته خصيصًا لنجدتنا في هذا الظرف العصيب. وحصل «من سعادته» على إذن إقامة ليس للمريضة وحسب، بل أيضًا لراهبة أخرى مسنّة لم يكن باستطاعتها تحمّل عناء مثل هذه الرحلة.

بدأ رحيل المُبعدين يوم 22 تشرين الثاني في الساعة الحادية عشرة صباحًا. يا لها من لحظات أليمة بالنسبة للجميع! ولكن أليسَ الذين بقوا هم الأكثر مدعاة للشفقة؟ فعلى الرغم من مشقّات الطريق، كم كانوا يودّون هم أيضًا التوجّه نحو الوطن الفرنسيّ النبيل! يا يسوع! كم هي مرّة الكأس التي أشربتنا إياها في ذلك اليوم! لكننا قبلناها حبًّا بك ومن أجل نصر فرنسا!

بعد رحيل المسافرين، بدا كلّ شيء أكثر فراغًا وظلمة من حولنا. وجاءت بعض الأحداث من حين لآخر لتؤجّج مخاوفنا.

ذات يوم وصل إلينا قنصل فرنسا في وان منهكًا… وغاضبًا. فبعد طرده هو الآخر، أوقفه الأتراك في طريقه، وأجبروه على العودة على أعقابه حتّى ديار بكر. سمحوا له بالإقامة في دير الآباء، لكنّه كان يتساءل عمّا سيفعلونه به. فهناك قنصلان روسيان كانا قد سُجنا.1

مجازر ديار بكر

هذه هي الوقائع المأساويّة التي جرت خلال تلك الفترة، كما علمنا بها لاحقًا.

في كلّ أنحاء المدن الرئيسيّة، عُقدت اجتماعات سرّية بين الأتراك، كانوا يخرجون منها بمظاهر شرّيرة ومستفزّة. بعد فترة وجيزة، سُرّح من العمل جميع الأرمن الموظفين في الدولة. ولم يكن ذلك سوى تمهيد لم يُسئ فهمه الذين سيصبحون ضحايا الغد. توقّعوا كلّهم الموت، لكنّ البعض منهم سيحاول اللجوء إلى صراع الحقّ ضدّ القوّة.

أُخفيت الأسلحة، وأُخفيت جيّدًا طالما أنّها نجت من أوّل تفتيش قام به الأتراك لمنازل الأرمن. عندها بدأت عمليات التوقيف: أوقف الأسقف الأرمني [أندره تشيليبيان] وكهنته في ديار بكر، مع «وجهاء» المدينة. فكان عليهم أن يعترفوا بمكان وجود الأسلحة أو أن يخضعوا لتعذيبٍ فيه تفنّن. وكان الأسقف أوّل من خضع للتعذيب: اقتلعوا لحيته شعرةً شعرة… ثم اقتلعوا أظافره… وأخيرًا، وبعد رشّه بزيت الكاز حرقوه حيًّا. صُلب أحد كهنته، وغُرز مسمار كبير في صدره. وبذلك تمّ بلوغ الهدف المنشود، إذ كشف بعض السجناء، لفرط ذعرهم، عن المكان الذي خبّئت فيه الأسلحة.

هكذا أصبحت الأمّة الشهيدة لقمة سائغة بأيدي جلاّديها! تكاثرت عمليات الاعتقال، التي تلت معظمها وبسرعة عمليات إعدام دون محاكمة. فكانت كلّ ساعة من ساعات النهار تكشف مشاهد جديدة من الفظائع والذعر. ولم يكن الليل يعلّق تلك المهمّة البغيضة، إذ انتُشل العديد من أولئك التعساء من أسرّتهم ليُجرّوا إلى الموت حفاةً، بقمصان النوم.

وإذا بالسجون تمتلئ وتفيض؛ اعتبر القتلة أنّ عملهم بطيء أكثر مما يجب! وسيقود تسارعهم الشرس إلى «كتيبة طيبيّة» جديدة [نسبة إلى عسكر الكتيبة الرومانيّة حاملة هذا الاسم، والمؤلّفة من المسيحيين غير المكشوفين، بقيادة القدّيس موريس من طيبة مصر، استُشهدوا في سويسرا، في بداية القرن الرابع]. جُمع ثمان مئة سجين على مراكب في نهر دجلة أبحرت باتجاه الموصل. لم يكن هدف هذه الرحلة سوى الموت، ولذا تهامس بعض أولئك التعساء حول إمكانية التظاهر بأنّهم أتراك، لإنقاذ حياتهم. قام أحد الكاثوليكيّين الورعين ليصبح رسول ذلك الجمع، وليرفع معنويّات رفاقه. تحدّث هانّيسي كازازيان كما كان يمكن أن يتحدّث القدّيس موريس: «لا ننكرنّ المسيح. فلنعطه دماءنا بسخاء. لنمت كمسيحيّين!» يا إلهي! كم يعوّض ذلك عن العديد من حالات الارتداد الجبانة!

وبما أن النهر يجتاز سهلاً شاسعًا، أُوقفت المراكب المسمّاة «الكلك» [أو الفلك] في ذلك المكان. إنّه «ميدان الشهداء». كان عدد الجلاّدين قد وصل إلى 500 جنديّ مسلّح. ما أن أُنزل المعتقلين العزّل من المركب حتى طُرحوا أرضًا، كالسنابل اليانعة المحصودة.

صرخ رئيس العصابة: «سيتمّ الإعفاء عن الذين لم يلقوا حتفهم، فانهضوا!» يا لها من حيلة شيطانية كانت تهدف إلى الإجهاز على الذين نجوا من الطلقات الأولى. كان ذلك في شهر أيّار من عام 1915.

في ديار بكر، «المدينة السوداء» التي لم تستحقّ هذا اللقب أكثر من ذلك اليوم، سيتمكّن المتعصّبون المسلمون من الانقضاض على فرائس جديدة: النساء والصبايا وحتّى الأولاد الذين يجب ألاّ يغيبوا عن قائمة الأبطال والشهداء. فمسيحيّاتنا الشجاعات، اللواتي كنّ قد ذقن الاستشهاد في قلوبهنّ عندما رأين أزواجهنّ وأولادهنّ يُذبحون، استشهدن ألف مرّة لعدم تيقّن المصير الذي ينتظرهنّ والذي كان يمكن أن يكون أقسى من الموت. تمّ توجيه طابور طويل من تلك التعيسات نحو حرّان (جنوب غرب أورفا) بالقرب من بئر شهيرة رٌمين فيها وهنّ على قيد الحياة، إنّما بعد أن ذقن شتّى أنواع التعذيب.

هذه المجازر الأولى طالت النخبة الأرمنيّة. أمّا بالنسبة لعامّة الشعب، فلم يتمّ التقيّد بالشكليات، وتكاثرت القوافل المشؤومة للمحكوم عليهم، وازدحمت بها الطرقات، ولم يوفّر الرعاة البرابرة ضربات سيوطهم على تلك القطعان البشرية. والذي كان يتوقّف بعد أن غلبه التعب كان يسقط فورًا بضربة فأس. وغالبًا ما كان لا يزال يتنفّس، ولكن ما همّ! فإنّه كان يُسلب، ويُجرّد من ثيابه، ويُترك على حافة الطريق حيث سيموت وحيدًا وعاريًا بعد بضع ساعات، وربّما بضعة أيّام!

أخبرتنا إحدى بناتنا، وكانت قد نجت من كلّ ذلك، أنّها رأت والديها يسقطان بهذا الشكل بينما أُجبرت بالقوّة على مواكبة القافلة.

وإذا جُمع الرجال والشبّان في الطريق لسوقهم في اتجاه آخر، فكان ذلك مؤشّرًا لإعدام جماعي كما سبق وذكرنا.

وفي مرّة أخرى، حصلت قبيلة من الأكراد الشرسين على إذن (وربّما على أمر) بالهجوم على أحد هذه المواكب، ممّا أدّى إلى مشهد مرعب لا يمكن وصفه. وثب السفاحون كالنمور، وقتلوا جميع الرجال بلمح البصر، بضربات من خناجرهم ودبابيسهم. ماذا سيفعلون بمن بقي من المجموعة؟ يبدو أن القرآن يحرّم قتل النساء والأطفال! سيُخصّص لأولئك الضحايا الأكثر ضعًفً أطول المعارك وشتّى أنواع الآلام، إلى أن يستضيف ملاك الاستشهاد تلك الأنفس المكلّلة بالمجد.

لنقدّم شهادة خاصّة كلّها رأفة إلى ذلك العدد الكبير من الفتيات البائسات اللواتي جعل منهنّ عمرهنّ وجمالهنّ طعامًا سائغًا لشهوات أولئك الوحوش الدنيئة. فقد اختُطف العديد منهنّ ووقعن ضحية استعباد مُهين. والله يعلم إلى أين تمّ اقتيادهنّ. إلى كوخ نتن لدى إحدى القبائل شبه الهمجيّة؟ أو إلى دار مخيفة لمسلم متعدّد الزوجات؟

هناك الكثيرات أيضًا ممن اخترن، هربًا من هذا المصير، الوسائل الأكثر بطوليّة، فشوّهن وجوههنّ لإثارة البعد أو النفور، وجرحن أعضاءهنّ في حركة فرار مولهة أو تعاركن مع خاطفيهن لدرجة إجبارهم على إعطائهنّ الضربة القاضية! وكان عزاؤنا في أن نعرف أن تلميذاتنا، في معظمهنّ، فضّلن التضحية بحياتهنّ على خسارة شرفهنّ المسيحي.

ما أسعدكنّ يا أيّها الطفلات، لقد استُشهدتن مرّتين! تذكّرننا في السماء.

وحدثت، حتّى بالنسبة «للصغار جدًّا»، فظائع لا يمكن تصوّرها. فكم منهم انتُزعوا من أذرع أمّهاتهم الخائرات القوى ليُرموا أينما كان، في أراض مهجورة وحارقة. ولحسن الحظ أنّ الموت لم يتأخّر كثيرًا ليحصد تلك الأزهار النديّة.

واللواتي نجون من هذه المشاهد الفظيعة سقطن جميعهنّ منهكات أثناء مسيرات طويلة فُرضت عليهنّ عمدًا تحت أشعّة صيف الشرق المحرقة. وقيل إنّ تلك التعيسات اللواتي أضناهنّ الجوع والعطش، ولم يحصلن من حرّاسهن سوى على الاستهزاء أو الضرب، كنّ يلتهمن أعشاب حافات الطرق والفئران وأحقر الحشرات وحتّى… المواليد الجدد؛ وباعت أخريات تلك المخلوقات البريئة مقابل قليل من الماء. وكانت طفلة احتضنّاها ليلاً وجلبناها معنا إلى فرنسا ثمنًا لمثل هذه المقايضة التعيسة!

1915

قافلة ماردين

كانت كتيبة المرسَلين الكبوشيين مدعوة، هي الأخرى، إلى تقديم ضحية من ضحايا المحرقة. ففي حزيران 1915، انطلق من ماردين قافلة كبيرة من المعتقلين المُبعدين، مؤلّفة من 780 رجلاً2 بينهم الأسقف الأرمني [المطران مالويان] و17 كاهنًا من طائفته، وواحد من آبائنا، أصله من لبنان [الأب ليونار]. معظم أولئك الأبطال، الذين فضّلوا الموت على الارتداد، أُعطوا المناولة من يد الأسقف، قبل الذهاب إلى الذبح. كبّلوا أزواجًا وقَطَعوا، صامتين ومستسلمين، رحلة طويلة انتهت في مذبحة جديدة. تحيد عين الإيمان عن ركام الجثث المشوّهة لتبحث عاليًا عن الأرواح التي تحلّق في حلّتها الأرجوانيّة.

وجاء دور أورفا

لم يطل الأمر قبل أن تضرب العاصفة الدمويّة أورفا، حيث كانت المحنة كبيرة أيضًا. فهناك، كما في سائر المناطق، لاحق الحقد المتعصّب في الوقت نفسه الأمّة الأرمنيّة والدين الكاثوليكي. بهذه الصفة على الأقلّ، كنّا موقوفين للذبيحة. لنرفع آيات الشكر إذًا على الحماية الجليّة التي غمرتنا بها العناية الإلهيّة في تلك الأيّام المروعة. تعرّضنا مرارًا للخطر، لكنّنا نجونا في كلّ مرّة، في حين أننا كنّا عزّلاً وتحت رحمة الأتراك. لا بل إنّ الله شاء أن يقوم بعض قادتهم النافذين بتأمين سلامتنا أحيانًا. واقتصر عذابنا بالتالي على طول عزلتنا، وحدّة غمّنا.

في أورفا، يحتلّ الأرمن حيًّا بكامله، مبنيًّا على تلّ يبعد بضع مئات من الأمتار عن ديرنا. ذلك هو مسرح المأساة التي لا يسعنا إلاّ أن نعطي لمحة مجتزأة عنها.

منذ شهر أيار، تمّ اعتقال بعض وجهاء الحيّ ونفيهم. تمّ التظاهر بإبعادهم إلى قرية مجاورة، لكنّهم اغتيلوا وهم في الطريق إليها، دون أيّ إجراء آخر، بينما سُجن غيرهم بأعداد كبيرة.

توقيف الأخ روفائيل سمحيري الموصلي الأصل

بينما كنّا في خضمّ انفعالات تلك التصرّفات العدائية الأولى، حضر رجال الشرطة إلى الآباء ومعهم أمر بتوقيف الأخ روفائيل. ترى، ماذا سيجري؟

ارتجفنا رغمًا عنّا وصلّينا بحرارة. غاب طويلاً. وإذا بالسجين يعود… وحده. استجوبوه طويلاً حول «مستند» وُجد مع أحد المعتقلين، وهو تلميذ سابق في معهد معمورة العزيز. أمّا هذه الوثيقة الفاضحة، فكانت… تهنئة على حفلة! كان من حقّ مأموري السلطان أن يرتابوا وينفعلوا!

في شهر حزيران، أُبلغنا أن أخواتنا الثلاث اللواتي لجأن إلى ماردين اضطررن إلى التخلّي عن لباسهنّ الديني ليستترن بين الأهل والأصدقاء. هذا لا يعني أنهنّ أصبحن في أمان، فها هي واحدة منهنّ تُنفى مع جميع ذويها.

المبعَدون الأوروبيّون المعتقلون في أورفا

في تلك الفترة، اختيرت أورفا لتكون مكان اعتقال المنفيين الفرنسيين والإنكليز والروس. خلال أيّام معدودة، وصل 500 منهم. أدخل حضورهم الحركة إلى حياتنا المستمرّة كحياة الحبساء لأنّهم، نظراً لابتهاجهم بوجودهم معنا، كانوا يطلبون مساعدتنا في كلّ شيء تقريبًا. كم كان شعورنا بالفرح كبيرًا لأنّنا استطعنا، عبر خدماتنا، تخفيف آلام نفيهم في هذه المدينة التي لا يعرفونها! فإذا بنا نصبح من أجلهم خيّاطات وغسّالات وكاويات، الخ… بالمقابل، فإنّ الميسورين منهم كانوا يختارون بياضات وقطعًا مخرّمة استطعنا إنقاذها من مشاغلنا، ويدفعون ثمنها بسخاء، وفي نيّتهم حمل هذه الأغراض إلى أسرهم كتذكارات من البلاد. إلى جانب الموارد التي كانت تؤمّنه لنا هذه التجارة الصغيرة، فإنّ حضور مواطنينا الأعزّاء في أورفا شكّل بالنسبة لنا فائدة نفيسة. فعندما عرف البعض منهم أنّنا هنا مجموعة من الفرنسيّات، اجتهدوا في الحصول لنا على إعانة شهريّة تتيح لنا أن نخفّف من جزعنا إزاء قرب نفاذ مؤننا.

ومن الأسباب النادرة التي كانت تبعث إلى الابتهاج آنذاك رؤية جميع أولئك المُبعدين، كلّ يوم أحد، يملأون كنيستنا التي كان لا يزال الآباء يقيمون فيها القداديس. فكم جعلتنا الأناشيد التي رتّلوها نحلم بتراب فرنسا!

وصول المرحَّلين الأرمن

في شهر تموز، أبلغونا عن وصول دفعات جديدة. لكنّ الأمر هذه المرّة لم يكن يتعلّق بمجرّد «مرحّلين» محميين ضدّ عدائية الأتراك، بحكم هيبة جنسيّاتهم الأوروبيّة. إنّما كان يتعلّق بمواكب من الأرمن جيء بهم من الداخل واقتيدوا، وفق ما يُقال، إلى حلب. أيّ أنّهم من المحكوم عليهم، في الحقيقة، ولذا لم يحصلوا على ملجأ سوى السجون التي حُشروا فيها، دون أيّ اكتراث بالمدى ولا بالهواء الضروريّين لمثل هذا الحشد.

لم يعد لدينا سوى هاجس واحد، الوصول إلى أولئك التعساء والإفراج، إذا أمكن، عن عدد من بناتنا الموجودات بينهم، كما قيل لنا.

اتّجهت إحدى الأخوات، الملتحفة بحجاب عربيّ كبير لإخفاء ثوبها، نحو باب السجن، آملة أن يفتحوا لها المدخل. عبثاً حاولت! لا شيء يُرجى سوى ضربات سوط الحارس الشرس الواقف هناك.

كم صلّينا لتلك البائسات اللواتي كنّ ينتظرننا ويناديننا… لا بدّ من تجديد المحاولة! عادت الأخت، ولكنّها لم تعد وحدها، بل مصطحبة بشخص موثوق ومخلص بقدر ما هو لبِق، سيعرف كيف يستميل السجّان.

وبالفعل، فُتح الباب. ولكن يا لهول المشهد! تتبادر إلى الذهن فكرة المطهر! في ظلمة تلك الزنزانات، إنّه خليط من تلك الأجسام المنهكة، النحيلة بسبب الجوع، المهشّمة بحوادث الطريق، المحروقة بأشعة الشمس. أصبحت العيون ملتهبة بنتيجة الحمّى والخوف، ولا تنفتح الشفاه إلاّ ليصدر منها أنين مؤلم.

ما أن اجتازت الأخت تلك العتبة المغمّة حتى ارتمت الطفلات بين ذراعيها: «أشفقي علينا، أنقذينا!» مسكينات! لن يُخذل أملكنّ بنا، ولكن هنا يأتي دور التحايل والدبلوماسية. قلّما يكون السجّان التركي غير قابل للارتشاء! في الوقت الذي كان يتمّ التأكيد للذي كان هناك أنّ غياب بضعة أطفال لا يمكن أن يعرّضه للخطر، دُسّت له بمهارة فديةٌ صغيرة، وها هي الأخت، والسعادة تغمرها، تعود إلينا بتلك الطفلات اللواتي أطلق سراحهنّ. كان من الصعب التعرّف عليهن، وكنّ شبه عاريات ومنهكات، أخذت كلّ واحدة منهنّ تروي لنا ملحمة عذابها! بكينا معهنّ بينما كنّا نوفّر لهنّ أوجه العناية الأكثر إلحاحًا.

ثمّ جاءنا عدّة صبية من 10 إلى 15 سنة، وقد تمكّنوا من الفرار قبل الوصول إلى أورفا، على أمل اللجوء عندنا. إنّهم تلامذة الآباء. استقبلهم الأب بنوا باهتمام مُلفت، وأمّن لهم احتياجاتهم. كم كان يودّ إبقاءهم بشكل دائم! ولكن كيف السبيل لانتشالهم من الشرطة، وهي بالمرصاد؟

في هذه الظروف، جاءت التفاتة محبّة من المرحّلين الأوروبيّين، حاذقة فعلاً، وبفضل حيلهم البارعة، استطعنا أن ننقذ عددًا من أولئك الأطفال الأعزّاء. إنّهم مدينون بالجميل إلى الأبد للذين حموهم.

كيف لنا أن نحكي قصّة مدينتنا التعيسة، أورفا، خلال أشهر آب وأيلول وتشرين الأوّل 1915؟ إنّها فترة لا توصف من الرعب والمجازر!

هنا كما في أمكنة أخرى، بدأوا بإنذار موجّه إلى الأرمن بوجوب تسليم أسلحتهم. لم يحصل المأمورون سوى على بضع بنادق قديمة. سرعان ما ثأروا لخيبتهم بتوقيف المطران المنشقّ وعدد من الأعيان، وبينهم خمسة من أصدقائنا الكاثوليكيين. جاء التعذيب، بالنسبة لهؤلاء، بعد الاعتقال فورًا وقبل أن يُحكم عليهم!  وسيشكّلون طلائع فيلق جديد من الشهداء؛ اقتيدوا إلى الموت في جوّ أشبه بأجواء النصر، على دويّ الموسيقى العسكريّة، وكأنّ الأتراك سكروا، منذ ذلك الحين، من الدم المسيحي الذي سوف يُراق. وأمّا نحن، فقد صلّينا للضحايا الشرفاء وارتعدنا بانتظار أسوأ الأحداث.3

مجزرة 19 آب

اهتاج الأرمن بشدّة وقرّروا أن يقاوموا مضطهديهم. طالما أنّ المطلوب حياتهم، فإنّهم لا يريدون إعطاءها، بل الدفاع عنها بشراسة في نضال بطولي. ولهذه الغاية، حفروا في أحيائهم، منذ زمن بعيد، خنادق ومخابئ أُخفيت فيها الأسلحة بعناية. المساكن مقفلة، والشوارع شبه خالية من المارّة.

في 19 آب، بعد الظهر، انطلق تراشق غزير بالرصاص. فقد قام الأتراك، بعد أن وصلتهم إشارة خفيّة، بالهجوم على الحيّ الأرمني. سقط العديد من التعساء في هذه المواجهة الأولى، وكان يُسمع صياح القتلة وصراخ الضحايا المؤلم، ممزوجان بطقطقة الرصاص.

من تراه يقول ماذا يحسّ به المرء في مثل هذه اللحظات! كان علينا أن نقاوم نوعًا من الذهول لنرفع إلى الله ابتهالاتنا الحارّة.

وإذا بقرع على الباب يوقفنا. فتحنا… فاندفع إلى الفناء ثلاثة أرمنيين. كانوا عائدين من العمل، وكادوا يقعون بين أيدي جلاّديهم، فبحثوا عن خلاصهم عندنا.

سبق وقلتُ إنّـنا لم نكن في دارنا بل في مسكن صغير مستأجر. أمعنّا في الترّجي، فأقنعنا صاحبة المسكن بأن تترك أولئك المساكين يختبئون في القبو. ولكنّها في اليوم التالي، وعلى الرغم من توسّلاتهم وتوسّلاتنا، استسلمت للخوف، وأجبرتهم على الخروج. كان يعني ذلك إرسالهم إلى الموت، ولم تكن بيدنا حيلة في مثل هذا الوضع اليائس! لم يكد أولئك الشبّان يمشون خطوات معدودة حتى سقطوا منحورين.

ولم يكن ذلك سوى البداية! خلال الهدوء الخادع الذي تلى الحادثة، وبينما كنّا نسحب الجثث، ونخفي آثار الدم عن الشوارع والجدران، جرى من حولنا العديد من المآسي الخفيّة. فقد تابع الجلاّدون، في الظلّ، مهمّتهم المشؤومة. كانت قد أعدّت مسبقًا قائمة طويلة بالضحايا، وفي كلّ لحظة، كان يُداهم بيتٌ على حين غرّة فيتمّ القضاء على سكّانه دون رحمة.

في إحدى القرى القريبة، تمّت تعبئة شبّان كثيرين من أورفا للقتال تحت راية الأتراك. هل شُكّك بولائهم للهلال؟ لا أدري، ولكنّهم فُصلوا عن كتيبتهم، وكُبلّوا أزواجًا، واقتيدوا جانبًا قبل أن يُذبحوا بلا شفقة.

الخوري حنّا في حماية القديس جرجس

لا يسعنا أن نغفل قصّة الكاهن السرياني الكاثوليكي، الخوري حنّا، الذي نجا بأعجوبة من المجزرة. أخبره صديق أنّ اسمه وارد على قائمة الموت، فهيّأ نفسه للتضحية العظمى، مؤاسيًا ومشجّعًا أبناء رعيّته المذعورين، ثمّ انتظر في داره أولئك القادمين لذبحه… فتخيّلوا كيف عاش لحظات الانتظار!

لكنّ ما أدهش الكاهن أنّ أيّامًا عديدة مرّت دون أن يظهر القتلة: والحال أنّ الناس رأوهم يعبثون في المنطقة! وقد أدلى أحد الرجال لاحقًا بالشهادة التالية:

«جئنا لنقتلكم، لكنّنا رأينا أمام باب كنيستكم جنديًّا وسيمًا يحمل أسلحة برّاقة. أجبرتنا طلّته المهيبة، ونظراته الحادّة، على التراجع. غداة ذلك اليوم، قمنا بمحاولة ثانية: كان الجنديّ نفسه هناك. لم يقل لنا شيئًا، غير أنّ مجرّد وجوده قضى على أيّة رغبة لدينا في العودة.»

عند سماع هذه القصّة، شعر الكاهن وكأنّه مشلول لفرط انفعاله؛ تبادر إلى ذهنه القدّيس جرجس، شفيع كنيسته، التي يخصّه بعبادة جمّة. وهو لا يتردّد في أن يرى حاميه السماوي في ذلك المقاتل الذي صدّت جلالته وحدها أولئك الأوباش.

قصف أورفا

منذ مجزرة 19 آب، ظلّ الأرمن في وضع يشوبه الحذر، متخوّفين من هجوم جديد. وبالفعل، في 29 أيلول، حوصر حيّهم مجدّدًا، وانهمر الرصاص مرّة أخرى، مصطحبًا بصيحات مروعة. لكنّ هذه المرّة كانت المقاومة أفضل تنظيمًا، والمقاومون أكثر انشراحًا، واستبسلت نساءٌ وحتّى فتيات في القتال إلى جانب أزواجهنّ وإخوتهنّ. تمّ صدّ المهاجمين لفترة ثلاثة أسابيع: كانت معركة بكلّ معنى الكلمة، ولم يكن جميع الضحايا لدى الأرمن.

أصمّنا أجيج القتال المستمرّ ليلاً ونهارًا؛ ولفرط قربنا من ساحة المعركة، كان الرصاص يقفز على شرفتنا! ولم يكن هناك شيء يضمن ألاّ يصل إلينا الرصاص عبر النوافذ. إنّما والحمد لله، لم يصبنا أيّة شظية. أمام “فشل” موفديه، غضب جمال باشا، وبعث ببرقيّة تأمر بإبادة جميع «متمرّدي» أورفا! ولهذا الغرض، أرسل كتيبة دعم من حلب، بإمرة قائد ألماني، ومعها أربعة مدافع.

أثار هذا النبأ فرحة عارمة بين الأتراك. أطلقت النساء من أعلى السطوح والشرفات زغردات حادّة، هي صيحات فرح وحشية، على شرف الشجعان الآتين لسحق «الغواورة» (الكفّار، وهي التسمية التي كان يُكنى بها المسيحيون).

في الثامن من تشرين الأوّل، ثُبّتت المدافع في مراكزها. وقام الحاكم، المسؤول عن حياة الأوروبيّين، بحجزهم في دير الآباء لفترة القصف. وطلب منّا نحن أيضًا أن نلتحق بهم. ألا ننتمي كلّنا إلى فرنسا؟ بعضنا بالدم، والبعض الآخر بالقلب؟

وبلمح البصر، اجتيحت كلّ الأبنية: الكنيسة والدير والمدرسة. عندما رآنا كاثوليكيّو حيّنا ننسحب، حاولوا أن يتبعونا، غير أن رجال الشرطة كانوا بمنتهى القسوة، وتفتّت قلوبنا لأننا اضطررنا التخلّي عن جماعتنا، وأحسسنا بالضربات التي كانت تنهال عليهم من أجل إبعادهم عن بابنا.

ما كدنا نُحتجز حتى دوى صوت أوّل طلقة مدفع. دام القصف حتّى الليل؛ عندها حاول الأتراك المهاجمة من جديد، فتمّ صدّهم بقوّة.

في ملجئنا المؤقّت، حاولنا أن ننظّم أنفسنا قدر المستطاع. استُخدمت السكريستيا كنيسةً، والكنيسةُ مرقدًا مشتركًا. أمّا بالنسبة إلينا، فقد بدا لنا، منذ اليوم التالي، أنّه من الممكن العودة إلى مسكننا الصغير، وهو قريب أصلاً.

خلال ثمانية أيّام، هاجت المدافع، فحوّلت مساكن التلّ الأرمني الغنيّة إلى أنقاض يُرثى لها. كنّا نرتعد عند كلّ ضربة مدفع، ولكننا بالأخصّ كنّا نصلّي لأولئك المقاتلين الأبطال الذين سيُضطرّون بعد حين، على الرغم من بسالتهم، إلى الاستسلام أمام القوّة الوحشيّة. ماذا سيتبع ذلك؟

في 15 تشرين الأوّل، رأينا علمًا أبيض يرتفع على كومة من الركام، وبعد قليل، رفرفت بقربه الراية التركيّة. انتهت القصّة: لقد استسلم الأرمن المساكين! ولكن ما هي المشاهد التي جرت في ظلمة ليلتهم الأخيرة؟ استطاع البعض ممن نجوا من تلك المجزرة أن يُخبرونا.

قبل الاعتراف بهزيمتهم، جمع الذين نجوا من الموت ما بقي ممّا امتلكت أيديهم، وأضرموا فيها النار. ثمّ قاموا، على ضوء هذا الحريق، وبينما كان جرس كنيستهم يرنّ للمرّة الأخيرة وكأنّه يقرع لاحتضار بطيء، كان الآباء، وهم لا شكّ في حالة غير طبيعيّة، قد أهلكوا أجمل بناتهم بدلاً من تركهنّ بين أيدي جلاّدين سافلين!

ما أن انتهت هذه الإعدامات المؤلمة حتّى انقضّ الأتراك، ثملين من غيظ متعصّب وفرح غاشم، على التلّ الذي غمره الصمت. الإمساك بالمقاتلين الذين سلموا وتكبيلهم بالسلاسل لم يدم سوى لحظات. فقد استسلموا من دون مقاومة! خُصّص لهم مجلس حربيّ زائف. ولكن بعد ذلك، وفي أعلى التلّ، بين الأنقاض، وجد المسلمون المتوحّشون ما يشفي غليلهم وعطشهم للدم المسيحي. فقُتل الشيوخ والجرحى والمحتضرون بدورهم بتفنّن همجيّ لا يمكن وصفه.

أمّا بالنسبة «لأسرى الحرب»، فقد جاءت المحاكمة سريعة، والحكم لا رجوع فيه. لم ينتظروا طويلاً ساعة التضحية. ركعوا جميعًا من أجل صلاة أخيرة؛ وعند إعطاء الإشارة، نهضوا واصطفوا ليتلقوا الضربة القاضية، ثمّ سقطوا جميعهم معًا، كجدار ينهار. أحد الأطبّاء الأتراك، وقد حضر المأساة وأوفانا بتفاصيلها، أحسّ بانفعال قويّ لدرجة أنه توفّي بعد فترة وجيزة. بالنسبة للنساء والأطفال الذين نجوا من مذبحة التلّ الأرمني، نُفي العدد الأكبر منهم ولوحقوا في الصحراء، حيث كلّ شيء خطرٌ وألم. وسجن آخرون حتّى كانون الأوّل 1918. كم من دموع زرفنا عند سماع رواياتهم، دموع فجّرتها الشفقة بقدر ما فجّرها الإعجاب!

هذه السجون كانت، على أيّ حال، تطفح دائمًا بالمساجين. شاء سيّدنا الربّ الرحيم أن يمنحنا فرح إنقاذ تلميذتين أخريين من تلميذاتنا من هذه الزنزانات البغيضة، حيث أدّى البؤس والحرمان سريعًا إلى ظهور آفة جديدة هي التيفوس. كم من امرأة تعيسة لفظت أنفاسها الأخيرة دون عناية، وسط الإهمال والعري! في مثل هذه الحالات، ماذا يمكن أن ننتظره من الرأفة الإسلاميّة؟ لا شيء… سوى المقبرة الجماعيّة حيث كانت تُرمى المحتضرات مع الجثث، بلا تمييز!

في كانون الأوّل 1915، عقب هذه المذابح الرهيبة، فقدت مدينة أورفا ثُلث سكّانها. وخيّم على المدينة المحزونة جوّ من الكآبة والجزع. غير أنّ عيدَي الحبل بلا دنس والميلاد احتُفل بهما بأبّهة في كنيستنا، بفضل مساعدة المنفيّين الفرنسيين. ولا شكّ في أن أمّنا السماويّة والطفل يسوع ابتسما أمام مشهد هذا العدد الكبير من النفوس المتألّمة، الباحثة لديهما عن التعزية، وسط غمّ الحاضر، وأمل مستقبل أفضل!

انتهت السنة مع مرحلة جديدة من المحن. فُرض على جميع المنفيّين أن يغادروا أورفا، ووجّهوا إلى كونيا وضواحيها. إلاّ أن التيفوس تفشّى فيهم. بسرعة، رتّبنا للمرضى المصابين مستشفى صغيرًا حيث عالجناهم حتّى شفائهم. شعرنا بالسعادة والفخر لكوننا دُعينا لخدمة مواطنينا المنفيّين. مع الأسف، وعلى الرغم من عنايتنا، سقط اثنان ضحية هذا الوباء. لكنهّما توفّيا، على الأقلّ، وسط الاهتمام والعناية والمؤاساة.4

1916


ثمّ جاء دورنا لندفع فدية التيفوس الرهيب. أصيبت راهبتان، ولكن، لله الحمد، لم تكن أصابتهما فتّاكة.

في الربيع، هدّدتنا كارثة من نوع آخر، إذ تجمّعت فرق من الجنود الأتراك في أورفا، وكان لا بدّ من إيوائهم… أليس في ذلك خطر اجتياح كنيستنا الجميلة وتدنيسها؟ لقد زارها أحد القادة، ووجد أنّها تصلح لتكون ثكنة. اضطررنا إلى تجريد المذبح المقدّس من كلّ زينته، فقمنا بهذه المهمَة بحزن وأسى. يا يسوع، أتريد التخلّي عن بيتك للكفّار؟ إلاّ أن ذلك لن يحدث. لم يكن الأمر سوى تهديد عابر. فقد ألغى ضابط آخر أوامر الضابط الأوّل. وبكلّ حميّة أعدنا ترتيب المذبح. شكرًا يا إلهي! ابقَ بجانبنا دائمًا ليبدو لنا كلّ ألم خفيفًا!

إلاّ أنّ الآباء اضطرّوا إلى استضافة الضباط الألمان الذين كانوا يقودون جنود حلفائهم الأفاضل، وكانوا حريصين على إظهار ثقافتهم زارنا أحدهم، وهو النقيب. بعد كلمات مجاملة خرقاء، تحمّس وأخذ يتغنّى بتركيا النبيلة التي تنتشر فيها كلّ الفضائل، ثمّ انفجر أخيرًا بالشتائم الفظّة ضدّ فرنسا. اضطررنا أن نسمع أقاويله الوقحة خلال ساعة من الزمن، دون أن نتفوّه بكلمة، كاظمين السخط الذي أثارته في قلوبنا هذه الثرثرة التوتونيّة [نسبة إلى الشعب التوتوني الذي سكن ألمانيا في الماضي]. لا أدري إذا كان هذا الإنسان السخيف قد ظنّ أنّه فرض علينا الرهبة أو الاحترام… إلاّ أنّه لم يوح لنا سوى بالاشمئزاز.

لا شكّ في أنه غيّر نبرته ومسلكه عندما وقع في تشرين الأوّل 1918 أسيرًا لدى الحلفاء المنتصرين!

كانت سنة 1916 بالنسبة لنا سنة تغيير مكان إقامتنا. فإزاء تزايد مطالب المالك، قرّر الآباء أن يتنازلوا لنا عن بعض الغرف في ديرهم يمكن أن تكون مستقلّة. شاءت العناية الإلهية، بلا علمهم ولا علمنا، أن تقودنا إلى هناك للمحافظة على الكنيسة والدير إبّان أحداث 1917 التعيسة.

توقيف الكاهن الأرمني دِر ڤارتان

بعد إقامتنا في الدير بفترة وجيزة، قُدّر لنا أن نرى مشهدًا عنيفًا. كان كاهنٌ أرمني مسكين لجأ إلى كنيستنا، منذ سنة تقريبًا. وبما أنّه اختفى أثناء المجازر، توقّف الأتراك عن البحث عنه، ظنًّا منهم أنّه توفّي. مَن وشى عليه؟ لا أحد يعلم. في 24 أيلول، أي في عيد سيّدة الرأفة، جاء شرطيّ متنكّر بزيّ عربي، وأوقف المذنب المزعوم، المتّهم بالتمرّد لأنّه نجا من الخنجر الفتّاك.

أراد السجين السيئ الحظّ، متسلّحاَ ببراءته، أن يقاوم الشخص الذي جاء يقتاده، لكنّه ضُرب وجُرَّ خارجًا حيث أحاط به مأمورون كانوا له بالمرصاد. هرع الأخ روفائيل عند سماعه الضجيج، وحاول أن يتدخّل، لكنّهم أمسكوا به على الفور، واقتادوه إلى السجن مع الأرمنيّ المسكين، سبب هذه البلبلة.

وعليه، أصبح الآباء الذين آووه مشبوهين بدورهم؛ محبّتهم المسيحيّة وضيافتهم الأريحيّة تسبّبت لهم باضطهاد طويل وبمحن قاسية. سوف يتألّمون من دون ندم، معتبرين أنّها حصّتهم من «استشهاد الشرق»، ومتأملين كلمات يسوع المشدّدة للعزائم: «طوبى للمضطَهَدين من أجل البر.»

بدأ أوّلاً تفتيش الدير برمّته. وجدوا فيه أغراضًا تثير الشبهات: 1) قليلاً من التبغ فُرض عليه غرامة قدرها 30 فرنكًا؛ 2) قبّعات أوروبيّين نسوها المنفيّون. يا له من أمر خطير يوحي، بنظر رجال الشرطة المشكّكين، بوجود جواسيس يتعيّن اكتشافهم؛ 3) وآخر اكتشاف، سلاح يفضح بالتأكيد نوايا عدائية تجاه الدولة.

وفي النهار، استُدعي الآباء للمثول أمام الحاكم حيث خضعوا لاستجواب طويل موضوعه الكاهن الأرمني. أُطلق سراحهم في المساء، لكنّ الأخ روفائيل لم يُفرج عنه. مضى شهران قبل التمكّن من إخراجه من السجن، بعد تدخّلات مختلفة والتماسات وشروح.

كانت عودته عيدًا، لأنّنا كدنا نفقد الأمل برؤيته من جديد. مرّ الأخ المسكين بالعديد من الانفعالات المرعبة، وحيلته الوحيدة الصلاة المستأمنة والمستسلمة.

أخبرنا قائلاً: «ذات ليلة، شعرتُ بأنّ ساعة منيّتي دنت. سمعتُ دحرجة عربة في الخارج، وفي الوقت نفسه، فتح دركيّ بابي. بلمح البصر، أوحت لي مخيّلتي بكلّ ما ينتظر المحكومين بالإعدام: الرحيل في الليل، فصيلة تنفيذ الإعدام في إحدى الحقول المعزولة، الخ… وسط التأثر الذي يمكن تصوّره، تبعتُ الدركيّ الذي قادني بكل بساطة… إلى زنزانة ثانية.»

اتّهم الكاهن بالتمرّد، وذاق الأمرّين بسبب الرحلات الطويلة التي فُرضت عليه، لإرساله من محكمة إلى أخرى في حلب، ثمّ في دمشق حيث عادوا به إلى أورفا ليقتادوه بعد ذلك إلى مرعش حيث سيلتحق به آباؤنا المساكين بدورهم لاحقًا.

حملت لنا آخر أصداء 1916 أخبارًا تعيسة أخرى. أخبرونا أنّ الأخت آغات ماتت مؤخرًا من التيفوس الذي أودى بعد يومين بحياة والدتها.

علمت أخواتنا الشابات الشرقيّات أنّ إخوتهنّ ذُبحوا، بينما ماتت الأمّهات والأخوات في المنفى أو الحرمان والبؤس. كم من أحزان تتراكم! ولكن بالنسبة لواحدة فقط من أخواتنا، هناك بهجة كبرى في قلب المحنة. إذ لم ينجُ أحد إخوتها من القتل وحسب، بل أقام مؤخّرًا قدّاسه الأوّل. وغالبًا ما كانت أفكارها تتنقل بين «شهدائها» في السماء و«كاهنها» على الأرض.5

1917


هذه سنة جديدة. لا نجرؤ على التساؤل: «كيف ستكون؟»

لنهيّئ شفاهنا مسبقًا على القول الآيل إلى التضحية: ليكن لي بحسب قولك، بالقدر الذي يطيب فيه للربّ السماوي أن يقدّم لنا كأسه المرّة.

نفي آباء أورفا

يمثّل يوم 4 كانون الثاني، بالنسبة لنا، وأكثر منّا مرارًا بالنسبة للآباء، بداية درب صليب طويل.

في السابعة صباحًا، صعد الأب بونافنتورا إلى المذبح. كنا نتهيّأ، مع حضور غفير، إلى المشاركة في القدّاس عندما اجتاح الكنيسة فجأة جنود مسلّحون. وصلوا من كلّ مكان؛ من باب المدخل والسكرستيا؛ وفي لحظة، أحاطت بنا تلك الوجوه الحقودة والقاسية.

هل دقّت ساعة قتلنا؟ وصل شرطيّ فظّ إلى المذبح، وأغلق كتاب القدّاس، وجرّ المحتفل إلى السكريستيا، حيث أُجبر على نزع حلّته بسرعة.

ثمّ التحق بنا بعد ذلك إلى الفناء، حيث زجوا بنا بشكل عشوائي.

الآباء والأخوات والمؤمنون الذين كانوا يملأون الكنيسة، كنّا كلّنا هناك كمجموعة من المحكوم عليهم بالإعدام. ترى، ماذا يريدون منّا؟ إنّه لغز. بعد أن تخلّص الأتراك من حضورنا، أخذوا يقلبون ما في الكنيسة، ويزيحون كلّ شيء، ويفتّشون في أصغر الزوايا؛ ثمّ انتقلوا إلى الدير حيث ازدادت تحرّياتهم دقّة. عندها فهمنا. لا تزال قضية الكاهن الأرمني مطروحة وهي في أساس هذا الاستنفار.

انتهت المداهمة. ولكن كم كانت دهشتنا عظيمة عندما رأينا آباؤنا والأخ روفائيل وخدامهم، وقد اقتادهم الجنود المسلّحون الذين اصطحبوهم في موكب تعيس ومشين. كم ارتجفنا! وكم صلّينا!

أثناء النهار، أبلغنا الآباء أنّهم في السجن، وأنّهم سيُرسلون إلى مرعش مع الكاهن الأرمني للمثول أمام القضاء. صحيح أنّ بعض الأتراك الطيّبين أكّدوا لنا أنّهم سيعودون بعد خمسة عشر يومًا، لكنّـنا لم نستسلم للوهم؛ يجب أن نتوقّع كلّ شيء من الإجراءات التركيّة!

بناءً على إلحاحنا لدى الحاكم، أفرج عن المعتقلين بضع ساعات لكي يحضّروا رحلتهم. انطلقوا بالسيّارة، آملين ركوب القطار عند وصولهم إلى عرب بينار [عين العرب - كوباني].

ولكن يبدو أنّ السكك الحديديّة لا تلائم الجنود الذين يريدون اصطحاب أسراهم سيرًا على الأقدام، محطة بعد محطة. بعد التفاوض والنقاش، قبل الجنود بأن يستأجر المسافرون عددًا من الحمير الصغيرة.

الأب توما صالح يُصاب بالتيفوس

على الرغم من هذه البادرة اللطيفة، تبقى الرحلة شاقّة ولاسيّما لياليها التي لا بدّ من قضائها في الخانات المفتوحة للجميع، والأقسى من ذلك، المتفشية فيها الروائح الكريهة، والحشرات القذرة. وفي سبيل تفادي هذا العذاب الأخير، والذي لا يُحتمل أحيانًا، فضّل الأب توما المسكين، ذات مساء، أن يتوقّف ويستريح على صخرة في الطريق. في اليوم التالي، بعد أن تملّك منه التعب، أُصيب بالتيفوس، ووصل شبه ميت إلى مرعش.

أخذوه إلى المستشفى من دون أن يمنحوه عزاء الحصول على مساعدة إخوته في الدين الذين تمّ زجّهم مباشرة في السجن.

لحسن الحظ، شاءت العناية الإلهية أن تجد للمحتضر ملاكًا مواسيًا في شخص الأب باتريس، راهب فرنسيسكاني مقيم في مرعش، آزر الأب توما العزيز حتّى لفظ آخر أنفاسه، واستطاع بعد ذلك أن يعطينا تفاصيل وفاته المليئة بالعبر.

باتجاه محكمة أضنه

عمل الأب باتريس على التخفيف عن مساجيننا خلال شهرَي اعتقالهم في مرعش. بعد هذه الفترة، انطلقوا مجدّدًا نحو أضنه. أمّا عن ماهية تلك الرحلة الأخيرة، فإنّ بطاقة وصلتنا لاحقًا من الأب بونافنتورا تعطينا فكرة عنها، وقد كتب: «بفضل صلواتكم لم نمت خلال الرحلة!» غير أنّ آلام الاعتقال ستكون أكبر من آلام الطريق. يصعب أن نتصوّر كلّ الجوانب الكريهة التي تنطوي عليها بالنسبة لمساجيننا الإقامة لفترة طويلة في الزنزانات القذرة، بصحبة أشقياء فظّين ومنفّرين، وغذاؤهم مجرّد عصائد مقزّزة للنفس، وفراشهم أسرّة لا توصف، تتكاثر فيها الحشرات.

رغبة منّا في تخليص آبائنا من هذا الوضع، طبّقنا المثل القائل: «ساعد نفسك كي يساعدك الله». فبينما بقينا في أورفا، رافعين إلى الله صلواتنا وأعمالنا وقرابيننا، ذهبت الأخت فيبروني إلى أضنه. فكونها من الرعايا العثمانيين، يعطيها إمكانيّة الوصول إلى جمال باشا، قائد جيش سوريا، وهو ذو حظوة لدى السلطان. ومنذ اللقاء الأوّل، تعاطف سعادته مع قضيّة الآباء، ووعد بالاهتمام بهم. لا شكّ أنّه وفى بوعده، لكن كم كان بطيئًا!

احتلال الدير والكنيسة في أورفا

أثناء تلك المساعي، كنّا نعيش في أورفا انفعالات أخرى تُضاف إلى قلقنا.

في إحدى ليالي آذار، استيقظنا على نداءات قادمة من الشرفة المجاورة. بهذه الزيارة الليلية جاءت امرأة تبلغنا حدثًا مزعجًا. فالحاكم، على ما يبدو، سيحتلّ في اليوم التالي الدير والكنيسة. نهضنا وقد انتابنا أشدّ القلق. فهل حُكم على الآباء وصودرت ممتلكاتهم؟

يا له من ليل! كان علينا أن نفكّر بأنفسنا أيضًا، وأن نتهيّأ لنغادر المكان بسرعة. إنّما، وقبل كلّ شيء، كان علينا أن ننقذ “الضيف الإلهي” في كنيستنا من أعمال تدنيس ممكنة يقوم بها المسلمون.

أنذرت جارتنا المُحبّة كاهن الرعية المجاورة الكلداني، فهرع وناولنا القرابين المقدّسة. هذا المشهد، وسط الليل، أوحى لنا بمناولة الشهداء في الكاتاكومب! يحزّ في أنفسنا أن نرى بيت القربان فارغًا، ولكن إذا طردونا، لن نترك يسوع وراءنا على الأقلّ! سنحمله معنا في قلوبنا، وهي كلّها له.

بعد ذلك، جمعنا خلال عدّة ساعات الحاجيات التي لا يمكننا الاستغناء عنها. وكلّما انتهينا من تهيئة الطرود، كنّا ننقلها أوّلاً بأوّل من النافذة عند جيراننا.

عند بزوغ الفجر، كنّا قد جهزنا… لكنّ قلوبنا كانت تخفق بقوّة لاسيّما وأنّ موظّفي السلطان حضروا إلينا. لم يكن في موقفهم ما يبرّر مخاوف الليل. كان أولئك السادة لائقين معنا؛ صحيح أنّهم بحاجة للمكان، لكنّ بعض الغرف تكفيهم. ليس في نيّتهم حملنا على مغادرة الدير، لا بل سيسهرون على ألاّ يقلقنا أحد، الخ… يا للفرج! بقينا إذًا، بكل استقلالية، في الجزء من البناء الذي كان الآباء قد خصّصوه لنا. أمّا الجزء الباقي من الدير، فقد تغيّرت استعمالاته، وانتقل على التوالي من محكمة عسكريّة إلى دار خزانة إلى مستودع عسكري. غير أن موظفي مختلف هذه الإدارات لم يُظهروا لنا سوى حسن الالتفات. كان الحاكم قد أعطى أوامر صارمة بأن تتمّ معاملتنا باحترام. وكان هو بنفسه يرسل أولاده الثلاثة كلّ يوم ليتلقّوا لدينا دروسًا بالفرنسيّة.

حتّى أن جدراننا أوَت الراية الإسلاميّة! إنّها ذخيرة نفيسة لا تُنقل إلاّ مصطحبة بالمراسم العسكرية… ولكن إذا سنحت الفرصة في اليوم نفسه للفرار، لن يفوّتوها.

مباركة العناية الإلهيّة التي وفّرت لنا مُدافعين عنّا في أولئك الذين كان يمكنهم أن يقضوا علينا!

الخوري حنّا والخوري عمانوئيل

ندين أيضًا بذكرى العرفان بالجميل للكاهن الكلداني كما لزميله السرياني. في غياب آبائنا، اضطررنا إلى ارتياد كلّ من كنيستيهما. ووضع الخوري حنّا والخوري عمانوئيل كلّ تفانيهما الكهنوتي في خدمتنا.

وهذا الأخير هو الذي رافق في لحظاتها الأخيرة، في شهر تشرين الثاني، أختنا العزيزة مرتا، التي خطفها بسرعة مرض الزحار [التهاب الأمعاء الغليظة]. أجّج هذا الحداد كلّ أحزان المنفى وزادها ثقلاً.

ثمّ واجهنا أيضًا كارثة أخرى! فالحرب والمجازر والتيفوس أدّت بالضرورة إلى ما هو امتدادها، أي المجاعة التي أبادت شرائح واسعة من سكّان المشرق.

لا يمكن وصف التفاصيل المؤلمة لهذه الآفة الأخيرة. تلك الجثث المنتشرة على حافة الطرقات؛ أولئك المشرفون على الموت وهم يجرّون أنفسهم بصعوبة وسط الشوارع بحثًا عن بعض النفايات القذرة؛ ذلك الصراخ المحزن الذي كنا نسمعه ليلاً ونهارًا: «أنا جائع! أنا جائع!»

رؤية مثل هذه المشاهد، وعدم التمكّن من توزيع سوى بضع قطع خبز مقتطعة من حّصتنا المحدودة! شكّل ذلك بالنسبة لنا عذاب لا يمكن وصفه.

إدانة دِر فارتان والآباء الكبوشيّين

وسط كلّ هذه الأحداث ما كان يمكن أن ننسى مساجيننا في أضنه! كانت محاكمة الكاهن الأرمني قد شارفت على نهايتها. خضعت تلك الضحية الجديدة والبريئة للمحاكمة، وصدر بحقها حكم بالإعدام شنقًا. لم يُنفّذ الإعدام إلاّ في تشرين الثاني 1918 قبل بضعة أيّام من الهدنة. أمّا الآباء، كونهم شجّعوا «التمرّد» المزعوم، بإيوائهم الكاهن، فحصدوا 10 سنوات سجن.

لم يكن يُعقل الاستسلام. استمرّت الأخت فيبروني في مساعيها لدى جمال باشا بينما كان يعمل سيّدنا زوكتّي [الأب جان أنطوان دوميلان، رئيس الإرساليّة السابق، الذي صار أسقفًا ونائبًا رسوليًّا على آسيا الصغرى] والقاصد الرسولي في القسطنطينية، على إطلاق سراح المعتقلين. أخيرًا، اقترب الحلّ، ولكن بقي إجراء أخير، ألا وهو أن ندلي جميعًا بشهادتنا. حضرنا إذًا إلى السراي أمام قاض أقلّ ما يُقال عن مظهره أنّه ليس مهيبًا. ولذا، كان علينا أن نمنع أنفسنا من الضحك بينما كنّا نردّ على أسئلة هذا الشخص الذي قد تظنّه، في أوروبا، ماسح أحذية.6

1918


إطلاق سراح الكبوشيّين والعودة إلى أورفا


في خضمّ هذه الصراعات، أنهت السنة 1917 مسيرتها وطردت من منطقة الذكريات العديد من الأحداث المختلفة. فهل سيكون العام الجديد أكثر رأفة؟ هل سيضع حدًّا لمنفانا الطويل؟

تأملنا، في البدء على الأقلّ، في عودة آبائنا. ولكن كان لا بدّ من التحلّي بالصبر! الصبر ضروري دائمًا، ولكن يُنفق منه في تركيا أضعاف أضعاف! فحتّى عندما ألغى جلالة السلطان الحكم على مساجيننا في كلّ أشكاله، اضطرّوا للبقاء أكثر من شهرين ونصف في أضنه.

أخيرًا، أُبلغنا عن قدومهم، وعادوا إلى أورفا في 13 أيار، حيث كان الناس في انتظارهم، وحيث هنأهم الجميع وهلّلوا لهم. ابتهجت المدينة كلّها واحتفت بهم. من السهل التكهّن بمشاعرنا نحن، ومشاعر الكاثوليك اللاتين! كم رفعنا إلى السماء، كلّنا معًا، آيات الشكر الورعة!

بعد عودة الآباء، شعرنا بأنّـنا أكثر شجاعة؛ بدا لنا أنّ بصيص أمل زارنا ليبشرّنا باليوم العظيم الذي كنّا نتطلّع إليه في أمانينا وصلواتنا.

في شهر آب، وصلنا نبأ دخول الحلفاء إلى بيروت! فقد الألمان والأتراك الكثير من رباطة جأشهم وعجرفتهم! اعتبرت الأسر الألمانية المقيمة في أورفا أنّ الاحتراس يقضي بأن تغادر المدينة في أسرع وقت.

وفي تشرين الثاني، احتلّ الفرنسيّون والإنكليز حلب، وبعد بضعة أيّام، أُعلنت الهدنة. كان ذلك بمثابة اندفاع من البهجة الشاملة، حتّى بالنسبة لمعظم الأتراك، الذين كانوا قد فقدوا منذ زمن بعيد ثقتهم بأصدقائهم الألمان!

يا لسعادة الاحتفال، في أرض المشرق، بالنصر الفرنسي! يا لها من تسبيحة شكر دوت تحت قبب كنائسنا، بينما لم نجد في صميم الفؤاد سوى هذه الكلمات: «شكرًا يا ربّ! بعد انتصار فرنسا والسلام، أعط فرنسا، ابنة كنيستك البكر، تجدّد الإيمان الذي سيؤمّن وحده نصرها!»

خــاتمة

في 21 تشرين الثاني 1919، وصلت إلى بيروت سفينة حرب رائعة تحمل العلم الفرنسيّ. وكان على متنها جنودنا البواسل الذين جاؤوا، بإمرة الجنرال غورو، يحلّون محلّ الجنود الإنكليز في بلاد ما بين النهرين. ومن السفينة نفسها، نزل أيضًا الأب آنج الجزيل الاحترام، مدبّر أرساليّتنا، وكاهنان آخران وخمس راهبات.

بصدفة سماويّة، عادوا جميعهم ليطئوا أرض المشرق في اليوم نفسه الذي بُلّغوا فيه، لخمس سنوات خلت، قرار طردهم.

طُردوا وقتها في الخزي والعار وهُدّدوا وشُتموا وسُجنوا مرارًا، وها هم يعودون وسط أبّهة الاستقبال الحماسي الذي خُصّص لجنودنا المظفرين. كانت المدينة في عيد، وكانت ترفرف فيها أعلام فرنسا، وتدوي فيها طلقات الرصاص ورنين الفرح، بينما كانت تنيرها في المساء نيران الفرح.

وفي كنيسة اللاتين، المزيّنة كما في الاحتفالات، كان الضابط الفرنسي النبيل يتلقى بتأثّر، إثر احتفال مهيب، تحيّة الترحيب من القاصد الرسولي.

هكذا يتغلّب الله على نوايا الأشرار… فهو يختار اليوم والساعة ليعظّم، أحيانًا في هذه الدنيا، الذين اضطُهدوا من أجله!

وسط الهتافات التي كانت تحيّي عودة مُرسَلينا، لا شكّ في أنّهم همسوا بصوت خافت آيات تسبيحة البتول: «صَنع عزًّا بساعده وشتَّت المتكبّرين بأفكار قلوبِهم…»7

* نقله من الفرنسيّة إلى العربيّة: الياس إميل ملكي.

1 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 270، آذار 1920، الصفحات 74 إلى 76. 2 ملاحظة الناشر: نظرًا لعدد المعتقلين الكبير، قسمهم السفاحون إلى قافلتين : الأولى، مؤلّفة من 417 رجلاً، انطلقت في 11 حزيران، وكان فيها المطران مالويان والأب ليونار؛ والثانية، مؤلّفة من السجناء الباقين، انطلقت في 15 حزيران. 3 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 272، أيار 1920، ص. 121-126. 4 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 274، تموز 1920، ص. 187-190. 5 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 275، آب 1920، ص. 209-211. 6 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 276، أيلول 1920، ص. 236-239. 7 مجلّة «الرسول الصغير»، العدد 277، تشرين الأوّل 1920، ص. 272.

شارك:
Facebook
تويتر
إطبع
Go To Top
انتقل إلى أعلى الصفحة
الفصل السابق

الأب لويس ميناسيان

الأب لويس ميناسيان

Previous Chapter
Go To Top
متابعة القراءة
...ومرّة أخرى، يـَـتـلـطَّـخ الثوب الفرنسيسي بدم الشهداء...
LeonardMelki
© فارس ملكي 2013